تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

الوجه الثاني والثلاثون: قوله: (حتى أتى بطن محسر ... ) هذا فيه بيان كيفية الانصراف من مزدلفة، وهو أنه صلّى الله عليه وسلّم لما دفع قبل طلوع الشمس وأتى بطن محسر حرك دابته قليلاً، وهذه هي السنة فيمن أتى بطن محسر أن يحرك دابته قليلاً، وكذا سيارته إن أمكن، وإن كان ماشياً أسرع.

ومُحسِّر: بضم الميم، وفتح الحاء، بعدها سين مهملة مشددة مكسورة، بعدها راء: وادٍ بين مزدلفة ومنى، لا من هذه، ولا من هذه، وهو قول الجمهور [(634) وقال بعض العلماء: إنه من منى، لما ورد عن الفضل بن عباس، وكان رديف النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال في عشية عرفة وغداة جمع للناس حين دفعوا: «عليكم بالسكينة، وهو كافٌّ ناقته حتى دخل محسراً، وهو من منى ... » الحديث [(635)].

وقد ذكر الأزرقي أنه (545) ذراعاً، قيل: سمي بذلك لأنه يحسِّر سالكه؛ أي: يُعْييه، وقيل: لأن فيل أصحاب الفيل حسَّر فيه؛ أي: أعيا، وهذا التعليل يؤيده إسراع النبي صلّى الله عليه وسلّم فيه؛ لأن هذه عادته صلّى الله عليه وسلّم في المواضع التي نزل بها بأس الله بأعدائه، لكن يشكل عليه أن الفيل لم يدخل الحرم أصلاً، وقيل: لأنهم كانوا في الجاهلية يقفون في هذا الوادي ويذكرون أمجاد آبائهم، فأراد النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يخالفهم، كما خالفهم في الخروج من عرفة، وفي الإفاضة من مزدلفة، وكل هذه أمور اجتهادية، وليس في المسألة دليل قاطع، فالله أعلم بحكمة إسراعه صلّى الله عليه وسلّم [(636)].

الوجه الثالث والثلاثون: قوله: (ثم سلك الطريق الوسطى ... )، هذا فيه بيان رميه صلّى الله عليه وسلّم جمرة العقبة، وهو أنه صلّى الله عليه وسلّم سلك (الطريق الوسطى) وهي الطريق القاصدة إلى الجمرات، ويبدو أن الطرق في منى ثلاثة: طريق شرقية، وغربية، ووسطى، وقوله: (الوسطى) مؤنث الأوسط، والطريق يذكَّر، في لغة نجد، وبه جاء القرآن في قوله تعالى: {{فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا}} [طه: 77] ويؤنث في لغة الحجاز، كما في هذا الحديث، وقد ذكر النووي أن هذا الطريق غير الطريق الذي ذهب فيه إلى عرفات.

وقوله: (التي تخرج على الجمرة الكبرى) لعل وصفها بالكبرى باعتبار ما قبلها من الجمرتين الصغرى والوسطى، ولأنها تنفرد بالرمي يوم العيد.

وقوله: (التي عند الشجرة) هذا في الزمن القديم، وهذا فيه دليل على أن السنة للحاج إذا دفع من مزدلفة فوصل منى أن يبدأ بجمرة العقبة، ولا يفعل شيئاً قبل رميها، فيرميها بسبع حصيات كل حصاة (مثل حصى الخذف) وهي بالخاء المعجمة، وهو الرمي بحصاة تجعل بين السبابتين، وقدر حصى الخذف أكبر من حبة الحِمِّص قليلاً، وهذا يدل على صفة الحصى الذي يُرمى به، وأنه أكبر من حبة الحِمِّص قليلاً، وعلى هذا فلا يرمي بحجر كبير يؤذي المسلمين، ولا يجوز بالصغير الذي لا يمكن رميه؛ لأن الرمي عبادة لله تعالى، فلا بد أن يكون بما يمكن رميه. ويكبِّر مع كل حصاة: (الله أكبر)، وهذا من كمال التعبد لله تعالى، والتعظيم لأمره، ليحصل الجمع بين التعظيم بالقلب والتعظيم باللسان، وقد رماها صلّى الله عليه وسلّم (من بطن الوادي) جاعلاً منى عن يمينه ومكة عن يساره، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

ولم يذكر جابر رضي الله عنه من أين أخذ النبي صلّى الله عليه وسلّم حصى جمرة العقبة، وهذا يدل على أنه ليس لذلك مكان معين، فيلقطها الحاج من حيث شاء، وقد جاء في حديث ابن عباس ـ وفي رواية الفضل بن عباس ـ رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غداة العقبة وهو على راحلته: «هاتِ القط لي»، فلقط له حصيات نحواً من حصى الخذف، فلما وضعهن في يده قال: «مثل هؤلاء ـ ثلاث مرات ـ وإياكم والغلوَّ في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلوِّ في الدين» [(637)].

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير