بل إن لازم دعواهم أن الله كان في حد المجهول أكثر منه في حد المعروف، فإنهم إذا قالوا بخلقها، فإن لخلقها وقتاً، فما كان قبل خلقها هي أزمان لا نهاية ولا حدَّ لها، قد كان الله فيها-على حد فريتهم-مجهولاً، أما ما كان بعد خلقها من الأزمان إلى الآن فهو محدود، وكون الله مجهولاً عندهم أكبر -بما لا حد له-من كونه معلوماً، وفي تأمل هذا الكفر الصراح ما يغني عن رده [27].
6 - كما أن في دعواهم هذه تشبيها لأسماء الله بأسماء المخلوقين، وقياساً لها عليها، وذلك من وجوه:
أ - أنهم جعلوا أسماء الله محدَثة مخلوقة كأسماء خلقه، وهذا من أبطل الباطل، بل هو وقوع فيما فروا منه من شبهة التشبيه، وفيه قلب لهذه الشبهة عليهم [28].
ب - أن المعتزلة إنما نفوا الصفات فراراً من التشبيه والتجسيم، إذ إنهم يرون أن التجسيم والتشبيه لازمٌ لمن أثبت الصفات [29]، فيقال لهم: فيلزمكم على هذا أن تنفوا الأسماء أيضاً، فإنكم إذا قلتم: هو حي عليم قدير، كان في هذا تشبيه له بغيره ممن هو حي عليم قدير، وكان في هذا من التجسيم كما في إثبات الحياة والعلم والقدرة له، لأنه لا يُعرف مسمَّى بهذه الأسماء إلا جسم، كما لا يعرف موصوفا بهذه الصفات إلا جسم، وبهذا استطالت الفلاسفة الغلاة والجهمية نفاة الأسماء والصفات على المعتزلة، وقلبوا عليهم دليلهم، فإن دليلهم في نفي الصفات دال على نقيض ما قالوا به في الأسماء، وهذا هو قلب الدليل بعينه، فعادت شبهتهم وحجتهم عليهم، ولهذا تفصيل سيأتي بإذن الله عند الكلام على الصفات [30].
والحق في ذلك ما ذهب إليه أهل السنة، ووافقوا به النصوص، من إثبات الأسماء والصفات على حقيقتها، إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل، وهذا الإثبات لا يستلزم التشبيه المحذور، إنما يستلزم التشبيه على فهم أهل التعطيل من المعتزلة ومن شاكلهم، ولذا كان هذا الفهم للتشبيه حجة عليهم فيما أثبتوه، ولم يكن حجة على أهل السنة فيما أثبتوه.
7 - ومن الحجج عليهم كذلك قوله تعالى في آلهة المشركين وأصنامهم:
{إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى (23)} [سورة النجم 53/ 23]
وقال سبحانه: {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (71)} [سورة الأعراف 7/ 71].
فقد عاب آلهة المشركين وأصنامهم بأن أسماءها منتحلة مستعارة مخلوقة، وفي هذا إشارة أن أسماء الله تعالى لم تزل كما لم يزل الله، وأنها بخلاف هذه الأسماء المخلوقة التي أعاروها للأصنام، والآلهة التي عبدوها من دونه، فإن لم تكن أسماء الله بخلافها فأي توبيخٍ لأسماء الآلهة المخلوقة؟! إذ كانت أسماؤها وأسماء الله مخلوقة مستعارة عند المعتزلة بمعنى واحد، وكلها من تسمية العباد ومن تسمية آبائهم بزعم القوم [31].
7 - ومن الأدلة العقلية على بطلان قولهم أن يقال:
لو كانت أسماؤه مخلوقة لم يخل:
إما أن يكون خلقها في ذاته.
أو في ذات غيره.
أو لا في ذاته ولا ذات غيره.
فبطل أن يكون خلقها في ذاته، لأن ذاته ليست بمحل للمخلوقات.
ولا يجوز أن يكون أحدثها في ذات غيره، لأنه لو كان كذلك لوجب أن يسمى من أحدثها فيه بشيء منها، فيسمى فرداً وصمداً.
ولا يجوز أن يكون أحدثها بنفسها في غير ذات، لأنها صفة، والصفة لا تقوم بنفسها
فبطل بذلك أصل الفرض بأنها مخلوقة، وتبين أنها غير مخلوقة [32].
¥