ـ إنكم مجمعون يا معشر الأشاعرة على أن ما دلت عليه هذه النصوص من دلالات ظاهرة وواضحة في إثبات الصفات ـ ونقول بها نحن ـ هي دلالات تحتملها النصوص في الأصل بصورة ظنية قوية، وبشكل راجح وغالب بالنظر إلى الأصل في هذا النوع من الدلالات، لكنكم تركتموها لدعواكم أن هناك قرائن دفعتكم لترك ذلك الظن الراجح من حيث أصله إلى الظن المرجوح من حيث أصله ولأن عقولكم استحالت الأخذ بالراجح.
وعليه فباعترافكم جميعا أن ما ذهبنا إليه من الأخذ بالظواهر وإثبات
الصفات على المعاني الظاهرة هو مذهب تحتمله النصوص في نفسها لأنه
مستمد منها وبشكل راجح وغالب أصالة
وعندها نقول لكم كيف نترك هذا الظن الغالب الذي يشهد له الأصل والذي هو مستمد من النص بالإجماع بيننا وبينكم إلى ظن أضعف منه أصالة باعترافكم و غير متفق على احتمال النص له، لأنه عندنا أن النص لا يحتمله كما هو الحال في أكثر تطبيقاتكم، فأغلب تأويلاتكم لا تحتملها النصوص لقرينة فيها إما من سياق أو نحوه بل فيها ما ينقضه النص نفسه وليس هذا محل بسط الأمثله فمحله في مبحث آخر
ـ إضافة إلى ما سبق فتأويل النصوص إلى ما يخالف ظاهرها هو مذهب محدث مبتدع ومخالف لما كان عليه صحابة رسول الله والتابعون وتابعوهم بإحسان، فقد أجمع السلف الصالح على ترك التأويل باعتراف أكثر الأشاعرة
فإن السلف قبل ظهور من يتكلم في نصوص الصفات ويخوض فيها كانوا لا يقفون من نصوص الصفات موقفا خاصا يتميز عن بقية النصوص بشيء، وإنما كانوا يعاملون النصوص كلها معاملة واحدة فيأخذون بكل معنى ظاهر وواضح من النص سواء في أبواب الفقه أو أبواب العقيدة والصفات، وواقع هذه النصوص أكبر دليل.
وكذلك كانوا لا يحرصون على طرح مبدإ معين عن طريق عبارات
معينة يخص هذه النصوص كما هو الحال بعدها، وإنما كانوا يتعاملون
معها كغيرها من النصوص
بدليل خلو عهد الصحابة كبارهم وصغارهم وكذا عهد كبار التابعين من إظهار موقف يخص تلك النصوص بشيء، وهذا باعتراف جل الأشاعرة
ثم عندما ظهر من يتكلم في الصفات كالجعد بن درهم في آخر القرن الأول ومطلع القرن الثاني وتبعه جهم، فعندها بدأ السلف يرفعون شعارات تقعيدية يسدون بها باب الخوض الذي أصبح غير مأمون بسب البدع المنتشرة كشعار (أمروها كما جاءت) و (تفسيرها قراءتها) ونحو هذا من العبارات كما ورد عن مكحول والشعبي والزهري
و ـ تنزلا ـ على قول بعض الأشاعرة أن صبيغا الذي أدبه عمر وكان يتكلم في القرآن ويضرب بعضه ببعض إنما كان يتكلم في الصفات، على التسليم بهذا
فالسلف لم يتكلموا بمثل ما تكلموا به حتى عند ظهور نواة الخوض في الصفات في ذلك الوقت المبكر حتى ظهر ذلك على يد جماعة كالجعد وجهم وأتباعهما وأصبح منتشرا
ولم تشتهر هذه الشعارات (أمروها كما جاءت) (تفسيرها قراءتها)
عن السلف حتى عند ظهور الجعد، وإنما كان نواتها على يدي مكحول
والشعبي والزهري ونحوهم في ذلك الوقت ثم بدأ هذا الشعار يشتهر باشتهار الكلام في هذا الباب
فمقالة السلف (أمروها كما جاءت) ونحوها من الشعارات الناهية عن الخوض وعن التعمق في التفسير إنما كانت أو اشتهرت بعد اشتهار الخوض في باب الصفات وبعد ظهور من يجادل في معانيها ويفسرها تفسيرا محدثا مخالفا لظاهرها
والخلاف بين حالهم بعد الشعار وقبله أن إعمال الظاهر الذي كان يُسمح به سابقا بإطلاق ولو من قبيل دلالة اللازم دون تخوف من المحاذير باعتبار أنه لا يسبب في تبادل الحجاج وتجدد الشبه من قبل المخالف، باعتباره غير موجود، أصبح مسموحا به في نطاق أضيق سدا لباب التوسع الذي يزيد من طرح الشبهات والجدل والخوض المنافي لقضايا هذا الباب لطروء مذهب مخالف يقوم على الجدل ونشر الشبهات
وهذا أمر لا يخالف فيه ذو دراية بذلك الواقع.
فالذي ينسِب لابن عباس أو ابن عمر أو لكبار التابعين أنهم كانوا يبثون مثل هذه الشعارات فليس معه فيما أعلم إلا الدعاوى العارية عن المستند
ومن هذا تعلم أن عامة الأشاعرة قد حرفوا الواقع ليبرروا مذهبهم
المحدث في التأويل وذلك عندما زعموا أن السلف كانوا ينادون بهذه الشعارات من أول أمرهم قبل ظهور الخوض في هذا الباب مدعين أن التأويل حل مشروع وإنما تركه السلف لعدم الحاجة إليه لعدم ظهور الكلام في الصفات على عهدهم
¥