ثانياً: يعرف بها تمام قدرة الله وحكمته، حيث أراد الطاعة التي فيها الخير، وأراد المعصية؛ فإن هذا من الحكم التي يتبين بها قدرة الله عز وجل على الجمع بين النقيضين بين الطاعة والمعصية.
ثالثاً: قيام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ إذ لولا المعصية لما كان هناك منكر يحتاج إلى النهي عنه، ولم يعرف المعروف حتى يؤمر به.
رابعاً: إقامة الجهاد، فإذا كانت المعصية كفراً فإن المسلمين يجب عليهم مجاهدة الكفار حتى تكون كلمة الله هي العليا، إما بإسلامهم وإما بإخضاعهم لأحكام الإسلام وبذل الجزية.
خامساً: أن المعصية يكون فيها أحياناً خير للعاصي، وذلك أنه ينتبه إذا رأى آثارها، فيقلع عن المعصية، ويزداد عملاً صالحاً، ويكون عبد المعصية خيراً منه قبلها.
إذاً فالمعاصي مرادة لله عز وجل من أجل ما يترتب عليها من المصالح، لا لذاتها، لأن ذاتها شر، لكن الله يريدها لأنه يترتب عليها خير كثير، كما لو أراد الأب الحنون أن يكوي ابنه من مرض ألم به، فالكي شر، لكن لما يترتب عليه من المصالح يكون مراداً للأب، ولهذا لو أراد أحد أن يكوي ابنه بدون سبب لمنعه بقدر ما يستطيع.
وكان بعض المعتزلة يقول: إن الله يريد الطاعة لأنها خير، ولا يريد المعصية لأنها شر، والله تعالى لا يحب الشر ولا يحب الفساد، فقال معتزلي ذات يوم عند رجل من أهل السنة: (سبحان من تنزه عن الفحشاء) وهذا الكلام طيب لأن الله لا يفعل الفحشاء، وحاشاه، ولكن هذه الكلمة إذا سمعها العامي فإنه يظن أن قائلها قد قدس ربه ونزهه عما لا يليق، ولكن هذه الكلمة ظاهرها رحمة وباطنها عذاب، فالله عز وجل تنزه عن الأمر بالفحشاء: (قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) (الأعراف: الآية 28) ولم يقل: قل إن الله لا يقدر الفحشاء، وفرق بين الأمر بالفحشاء وبين تقدير الفحشاء. المهم أنه لما قال: ((سبحان من تنزه عن الفحشاء))، قال له السني: ((سبحان من لا يكون في ملكه إلا ما يشاء)).
ولا يخفى أن الكلمة الثانية هي الأصح؛ لأن العاصي مملوك لله، ومعصيته داخلة في ملك الله، فلا يمكن أن تكون معصية في ملكه ولم يشأها الله، فإن قلنا: بذلك فقد حكمنا بأنه يكون في ملك الله ما لا يشاء.
فقال له المعتزلي: ((أرأيت إن منعني الهدى، وقضى علي بالردى، أحسن إلى أم أساء؟)) وقوله: إن منعني الهدى؛ يعني جعلني كافراً، وهو بقوله هذا يريد أن يلزم السني، حيث إنه كان يرى أنه لو قال: إن الكفر بإرادة الله فقد أساء إليه، والله عز وجل لا يسيء إلى أحد.
فقال له السني: ((إن منعك ما أنت عليه فقد أساء، وإن منعك فضله فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)).وهذا جواب سديد، فالهداية فضل من الله؛ وإن منعك فإنه لم يمنع حقاً واجباً عليه لك، فقطع المعتزلي وبهت وعجز عن الجواب، وهذا هو الحق، فكل ما في الكون من طاعة أو ضدها فهو مراد لله.
وقول المؤلف: (أو ضدها) يعني المعصية، فالمعصية مرادة لله، لكنها مرادة لله تعالى قدراً لا شرعاً،وأما الطاعة فمرادة شرعا وقدرا إذا وقعت من العبد.
فمثلاً إذا قام رجل فتوضأ وصلى، فإن هذا الوضوء وهذه الصلاة مرادة لله شرعاً وقدراً؛ أما كونها مرادة شرعاً فلأنها محبوبة إلى الله، وأما كونها مرادة قدراً فلأنها وقعت.
ومثال آخر: إذا سرق رجل فهذه معصية، وهي مرادة لله لكنها مرادة قدراً لا شرعاً.
ومن ثم نقول: إن إرادة الله سبحانه وتعالى تنقسم إلى قسمين:
الأول: إرادة شرعية: وهي التي تكون بمعنى المحبة، فكل شيء محبوب إلى الله فهو مراد له شرعاً، والإرادة الشرعية قد يقع فيها المراد وقد لا يقع، فالله سبحانه وتعالى يريد الصلاة شرعاً،لكن قد يصلي الإنسان وقد لا يصلي، مع أن الله قد أراد الصلاة شرعاً.
¥