لكن الدكتور شاهين، أمام مثل هذه الآيات التي ورد فيها لفظ "إنسان" ولفظ "بشر" في سياق متماثل، يقول: "إن استعمال لفظ "الإنسان" في الآية الأولى [هنا] إنما كان لأجل المقابلة بينه وبين "الجان"، أما". . . الحديث عن الأصل الترابي [فـ] يرتبط غالبا (بالبشر). وهو ما تبينه الآية الثانية".
لكن هذا التحليل ليس مقبولا لأن السياق اللغوي واحد، فضلا عن أنه يقول في موضع آخر: "وربما كان إطلاق كلمة (بشر) أيضا بهذا المعنى، وهو (الظهور) ـ مقابلا لما يتصف به عالم الملائكة، وعالم الجن، من عدم الظهور، فهم خلق لا يُرى، وقد قرر القرآن ذلك بشأن (الجن)، إذ هي كلمة مشتقة من معنى: (الاجتنان) وهو الاستتار. . ." (ص65).
وهو ما يعني أن المقابلة تكون بين "البشر" والجن والملائكة أيضا.
كما يعتمد في تمييزه بين كلمتي "البشر" والإنسان" على أن لفظ "الإنسان" هو الذي يرد في القرآن في مجال التكليف.
غير أن هذا القول غير دقيق؛ إذ إن لفظ "البشر" يرد في مجال التكليف أيضا. وذلك في مثل قوله تعالى:
"وما هي إلا ذكرى للبشر" (المدثر31)
"نذيرا للبشر" (المدثر36)
فتدل هاتان الآيتان على أن البشر "يُنذَرون" و"يُذكَّرون". وهو مما يدل على اكتمال مؤهلاتهم العقلية واللغوية أيضا، وأنهم وصلوا إلى مرحلة التكليف التي تدل على مستوى "الإنسان". لذلك فإن تمييزه بين الكلمتين لا معنى له.
2ـ تفسيره لكلمة "سلالة":
ويقول عند كلامه على قول الله تعالى:"ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين"، إن هذه الآية لا تدل على الخلق الأول، أي "البشر"، وإنما هي تذكير للإنسان بأصله.
ويعني هذا أنه يفسر كلمة "سلالة" هنا لتدل على أن المعنى في هذه الآية أن الإنسان جاء من سلسلة آباء خلقوا من طين، ". . . وكأن الآية تدفع عن العقل احتمال إدماج العمليتين [خلق البشر وخلق الإنسان] في عملية واحدة، فالإنسان خلق من (سلالة) نسلت من (طين)، أي: إنه لم يخلق مباشرة من الطين، فأما ابن الطين مباشرة فهو (أول البشر)، وكان ذلك منذ ملايين السنين" (90)
ويقول: "فخلق الإنسان (بدأ من طين)، أي: في شكل مشروع بشري، ثم استخرج الله منه نسلا (من سلالة من ماء مهين)، ثم كانت التسوية ونفخ الروح، فكان (الإنسان) هو الثمرة في نهاية المطاف عبر تلكم الأطوار التاريخية السحيقة العتيقة" (ص91).
لكن هذا التفسير لكلمة "سلالة" يعتمد على مدى ما يورده المؤلفُ من الأدلة على لزومه. وهو لم يورد أي دليل على أن هذه الكلمة لا تدل إلا على هذا المعنى في هذا السياق. أما هذه الكلمة فيمكن أن تفهم بمعان أخر، كأن يكون معناها "جزءا من الطين"، و"جزءا من الماء المهين".
وباختصار فإن تفسيره لكلمة "سلالة"، ولزوم الدلالة التي يراها يتوقفان على قبول تمييزه بين "البشر" و"الإنسان". وما دام أنه اتضح أن تمييزه بين الكلمتين ليس لازما، بل متمحَّلا، ومغلوطا بسبب عدم إيراده الآية التي في سورة آل عمران كاملة، وبسبب عدم إيراده الآية التي في سورة مريم، وهي أكثر الآيات وضوحا في رد هذا التمييز، فإن الدلالة التي يراها لكلمة "سلالة" غير لازمة.
2ـ تفسيره لبعض حروف العطف:
يُستعمل حرفا العطف "الفاء" و "ثم" في سياق قصة الخلق في القرآن الكريم. ويحاول الدكتور شاهين أن يفسر ورود أحد الحرفين في سياق معين في مقابل عدم ورود حرف العطف الآخر وسيلة لتعضيد تمييزه بين "البشر" والإنسان".
فهو يقول في تفسير قوله تعالى، "ولقد خلقناكم ثم صورناكم": "وهما مرحلتان في عمر البشرية، لعلهما استغرقتا بضعة ملايين من السنين. . . ومع ملاحظة استعمال الأداة (ثم) التي تفيد التراخي بين الأمرين" (ص86).
ويقول، عند الكلام على قوله تعالى:"وبدأ خلق الإنسان من طين. ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين. ثم سواه ونفخ فيه من روحه" (ص ص 105ـ106): "والأداة (ثم) للترتيب مع التراخي، وكأن استعمالها في هذا السياق ترجمة لمفهوم الزمان المتطاول الذي عبر عنه الظرف (إذا)، في مقابل استخدام الفاء أو الواو في ربط أجزاء أخرى من الآيات، تعبيرا عن التعقيب أو مطلق الجمع".
لكننا حين نتأمل الحالات التي يرد فيها حرف العطف "ثم" في القرآن الكريم نجد أنه ورد في التعبير عن الفترات القصيرة نحو مدة الحمل (ص92، ص106).
¥