أ. أن يخرج إليهم لِتَلَقِّيِهم، فَيَشْتَرِيَ منهم قبل قُدومِهم البلد بمسافة قريبة أو بعيدة، أو بعد دخولهم البلد، وقبل وصولهم السوق عند أكثر أهل العلم، لأن النبي _ صلى الله عليه وسلم قال: ((فإذا جاء سيده السوق)) فَدَلّ على المراد وصوله السوق لا دخوله البلد وهذه الصورة النهي عنها ظاهر.
ب. أن يَقصده المشتري، فإذا قصدوه هُمْ فليس داخل في النهي، مثل ما يوجد في الطُّرُقَات تَجِد أُنَاس جَلَبوا السِّلَع ووقفوا في أثناء الطريق يبيعونها لا يريدون أن يهبطوا بها الأسواق؛ فهنا لا بأس من الشراء منهم.
ج. أن يتلقاهم بقصد الضيافة أو السلام أو الفرجة أو خرج لحاجة فوجدهم يبيعون فاشترى منهم، فهذه محل خلاف بين العلماء، بناءاً على أن الحديث ورد بلفظ: ((لا تلقوا الركبان للبيع)) وعند مسلم: ((لا يُتَلَقَّى الركبان لبيع)) وصحح الشافعية التحريم والأحوط ترك الشراء منهم.
فمثلاً إنسان خرج لأداء العمرة، وهو في طريقه وجد هؤلاء سَيَقْدمون للبلدة التي هو فيها، هو خرج لحاجة لم يقصدهم فوجدهم يبيعون فاشترى منهم، والأحوط عدم الشراء منهم، مادام أنهم يريدون أن يهبطوا بها إلى الأسواق.
د. أن يتلقاهم ليبيع عليهم، فهذا داخل في النهي لعموم الحديث؛ سواء اشترى منهم أو باع عليهم، ولأن العِلَّة واحدة وهي خَدِيعَتُهُم وَغَبْنُهُم، ربما باع عليهم بسعر أكثر من سعر السوق فدخل في النهي.
هـ. أن يَتَلَقَّاهُم وَهُمْ لا يريدون أن يَهْبِطُوا بِهَا في سوق هذا البلد، وإنما في سوق بلد آخر، فهنا لا بأس أن يشتري منهم، لأن هذا الشراء هو في الواقع شراء من مسافر، والشراء من المسافر لا بأس به ما لم يكن حِيلَة.
و. أن يتلقاهم ويشتري منهم مع عِلْمِهم بالأسعار؛ فهذا لا بأس به، لأن النهي إنما هو فيما إذا كان الراكب جاهلاً بالسعر، أما إذا كان عالماً فلا نهي، لأن العلة زالت وهي الخديعة والغبن، فأصبحت الصور الآن ست بعضها منهي عنه وداخل في الحديث، وبعضها جائز ولا بأس به.
المبحث الثاني:
الحكمة من النهي عن التلقي لأن فيه إضراراً على الركبان وعلى أهل البلد.
أما الركبان فإن المُتَلَقِّي لهم سيأخذ السلعة بثمن أقل من ثمن السوق، فيحصل لهم الخديعة والغبن قال النووي _ رحمه الله _: (سبب التحريم إزالة الضرر عن الجالب وصيانته عن الخديعة).
وأما أهل البلد فإن من تلقى من هؤلاء فسوف يشتري منهم برخص ويكون شراؤه سبب لرفع الأسعار، بخلاف ما لو هبطوا بها الأسواق، فإنه سوف يحصل منهم تنشيط لأهل البلد وربما نزلت الأسعار مع كثرة ما جُلِبَ، وفيه قطع المواد عنهم وهم جلوس، من ابتغاء فضل الله _ جل جلاله _.
المبحث الثالث:
إذا حصل البيع أو الشراء هل يبطل العقد أم لا؟.
فيه خلاف، فالبخاري _ رحمه الله _ في "صحيحه" جَزَمَ بأَنَّ العقد باطل؛ والبيع مردود، فقد قال (باب النهي عن تلقي الركبان وأن بيعه مردود، لأن صاحبه عاص آثم، إذا كان به عالماً، وهو خداع في البيع، والخداع لا يجوز) انتهى.
وإليه ذهب بعض المالكية وبعض الحنابلة، وعللوه بأن النهي يقتضي الفساد.
وذهب الجمهور إلى أن البيع صحيح لأن النبي _ صلى الله عليه وعلى آله وسلم _ أثبت الخيار ففي رواية مسلم: ((فمن تلقاه فاشترى منه فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار)) والخيار لا يكون إلا في عقد صحيح، ولأن النهي لا يرجع إلى نفس العقد ولا يخل هذا الفعل بشيء من أركانه وشرائطه، وإنما هو لأجل الإضرار بالركبان أو بأهل البلد كما تقدم وذلك لا قدح في نفس البيع، وأما قول البخاري _ رحمه الله _: ’’لأن صاحبه عاص آثم‘‘ فقد أجاب عنه ابن حجر بأنه لا يلزم من كونه عاصياً أن يكون البيع مردوداً فقد يكون عاصياً والبيع صحيح ولا منافاة.
فالخلاصة إذاً: أن العقد صحيح وهو مذهب الجمهور لأن النبي _ عليه الصلاة والسلام _ أثبت الخيار، وإثبات الخيار فرع عن صحة العقد.
ولأن النهي لا يرجع إلى نفس العقد، ولا يُخِلّ هذا الفعل بشي من أركانه وشرائطه وإنما هو من أجل الإضرار بالركبان وأهل البلد.
المبحث الرابع:
¥