وقد انتهت أخبار حركة الشيخ عثمان بن فودي وجهاده إلى سلطان المغرب المولى سليمان يرحمه الله فسارع بالكتابة إليه معرباً عن إعجابه بدعوته ومفصحاً عن محبته له.
ونقتطف من رسالة المولى سليمان إلى الشيخ ابن فودي ما يدل على انتشار دعوة هذا الشيخ الشنية السلفية في بلاد السودان والمغرب ( ... إلى السيد الذي فشا في أقطار السودان عدله، واشتهر في الآفاق المغربية ديانته وفضله، العلامة النبيه، العديم في زمانه الشبيه، ذي النورين العلم والعمل، اللذين هما منتهى الأمل، السيد عثمان بن محمد بن عثمان بن صالح الفلاني، نفع الله بعلومه القاصي والداني، وسلام منا عليه ما اشتد شوقنا إليه، ورحمة من الله تغشاه، حتى لا يخشى إلا الله {والله أحق أن تخشاه}. وبعد، فقد بلغنا من الثناء عليك والتعريف بأحوالك وأفعالك وأقوالك ما أوجب محبتنا لك، وتسليمنا عليك ( ... ) أخبرنا بما قمت به من الأمر الواجب، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي له نصب الرسول والأمير والوزير والحاجب حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً، وترادفت عليك وفود الإسلام أمواجاً ( ... ) وهذا من أعظم منح الله، وأتم النعم، كما يشهد الحديث ((لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)) (18).
وأما ماذاد الدعوة وصدها فيمكن تمثله في عاملين إثنين:
أولهما انتشار الزوايا، وتعدد الطرق الصوفية، واتساع نفوذها في المجتمع، واشتداد سلطتها عليه. وقد اكتسبت ذلك بمرور الأعوام، وسيطرة الجهالة على العقول، وهيمنة الشعوذة على النفوس.
ومن أحسن ما وقع لنا في تصوير ذلك قول صاحب كتاب (تعظيم المنة بنصرة السنة) المؤرخ الشهير أحمد الناصري:
(قد ظهرت ببلاد المغرب وغيرها منذ أعصار متطاولة لاسيما في المائة العاشرة وما بعدها بدعة قبيحة وهي اجتماع طائفة من العامة على شيخ من الشيوخ الذين عاصروهم أو تقدموهم من يشار إليهم بالولاية والخصوصية، ويخصونه بمزيد من المحبة والتعظيم، ويتمسكون بخدمته والتقرب إليه قدراً زائداً على غيره من الشيوخ، بحيث يرتسم في خيال جلهم أن كل المشايخ أو جلهم دونه في المنزلة عند الله تعالى، ويقولون ((نحن أتباع سيدي فلان، وخدام الدار الفلانية)) لا يحولون عن ذلك ولا يزولون خلفاً عن سلف، وينادون باسمه ويستغيثون به ويفزعون في مهمتهم إليه معتقدين أن التقرب إليه نافع والإنحراف عنه قيد شبر ضار، مع أن النافع والضار هو الله سبحانه.
وإذا ذكر لهم شيخ آخر أو دعوا إليه حاصوا حيصة حمر الوحش من غير تبصر في أحواله، هل يستحق ذلك التعظيم أم لا. فصار الأمر عصيباً وصارت الأمة بذلك طرائق قدداً، ففي كل بلد أو قرية عدة طوائف، وهذا لم يكن معروفاً في سلف الأمة الذين هم القدوة لمن بعدهم، وغرض الشارع إنما هو في الإجتماع وتمام الألفة واتحاد الوجهة) (19).
ثانيهما الجمود الفكري الذي ساد الحياة العلمية فوقف بأصحابها، من علماء وطلبة، عند الحدود التي رسمها أصحاب المختصرات وحال بينهم وبين الإنتفاع من الأصول (المبسوطة المعاني، الواضحة الأدلة) (20).
وكان للسلطان سيدي محمد بن عبد الله جهود مشكورة في النهي عن اعتماد المختصرات في الأحكام وما إليها والحض على الرجوع إلى المصادر والأمهات، كما كانت له مثل تلك الجهود في الحث على ترك كتب التوحيد المؤسسة على القواعد الكلامية وفق المذهب الأشعري والإكتفاء بالإعتقاد المأخوذ من الكتاب والسنة بلا تأويل.
غير أن هذه الجهود وتلك اصطدمت بالجمود الفكري والتعصب المذهبي عند الفقهاء والعلماء، وما أحدثته من أثر في أوساط هؤلاء وأولئك سرعان ما زال بوفاة السلطان المذكور (21).
على أن هذين العاملين إذا كانا في حدي ذاتيهما من أشد العوائق التي عثرت مسيرة الدعوة في المغرب؛ بل وفي غيره من الأقطار الإسلامية؛ بل وفي عقر دارها فإنهما كانا، وفي نفس الوقت، مما عمق الوعي عند طائفة من أبناء الأمة المتنورين بإيجابيات مبادىء الدعوة المستمدة من الكتاب والسنة وغاياتها في تحرير العقل المسلم من قيود الشعوذة وتطهيره من أوضار الخرافة.
وقد انعكس ذلك على مواقفهم من الدعوة وكتاباتهم عنها، وهو مدار حديثنا في الفقرة الثالثة من هذا البحث.
ج - أصداء الوصول:
¥