قال ابن بطة _ رحمه الله _ في الإبانة (2/ 862): (اعلموا رحمنا الله وإياكم أن من شأن المؤمنين وصفاتهم وجود الإيمان فيهم، ودوام الإشفاق على إيمانهم، وشدة الحذر على أديانهم، فقلوبهم وجلة من خوف السلب، قد أحاط بهم الوجل، لا يدرون ما الله صانع بهم في بقية أعمارهم، حذرين من التزكية، متبعين لما أمرهم به مولاهم الكريم حين يقول: (فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى) ... )
وقال ابن تيمية _ رحمه الله _ وهو يتكلم عن مسألة الاستثناء في الإيمان:
(والمأخذ الثاني في الإ ستثناء أن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به عبده كله وترك المحرمات كلها فإذا قال الرجل أنا مؤمن بهذا الاعتبار فقد شهد لنفسه بأنه من الأبرار المتقين القائمين بفعل جميع ما أمروا به وترك كل ما نهوا عنه فيكون من أولياء الله وهذا من تزكية الإنسان لنفسه وشهادته لنفسه بما لا يعلم ولو كانت هذه الشهادة صحيحة لكان ينبغي له أن يشهد لنفسه بالجنة إن مات على هذه الحال ولا أحد يشهد لنفسه بالجنة فشهادته لنفسه بالإيمان كشهادته لنفسه بالجنة إذا مات على هذه الحال وهذا مأخذ عامة السلف الذين كانوا يستثنون وإن جوزوا ترك الاستثناء بمعنى آخر كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
قال الخلال في كتاب السنة حدثنا سليمان بن الأشعث يعني أبا داود السجستاني قال سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل قال له رجل: قيل لي أمؤمن أنت؟ قلت: نعم هل علي فى ذلك شيء؟ هل الناس إلا مؤمن وكافر؟ فغضب أحمد وقال: هذا كلام الإرجاء قال الله تعالى: {وآخرون مرجون لأمر الله} من هؤلاء؟ قال أحمد: أليس الإيمان قولا وعملا قال له الرجل: بلى قال: فجئنا بالقول؟ قال: نعم، قال: فجئنا بالعمل؟ قال: لا، قال: فكيف تعيب أن يقول إن شاء الله ويستثني؟.
قال أبو داود أخبرني أحمد بن أبي شريح أن أحمد بن حنبل كتب إليه في هذه المسألة أن الإيمان قول وعمل فجئنا بالقول ولم نجيء بالعمل فنحن نستثني فى العمل وذكر الخلال هذا الجواب من رواية الفضل بن زياد وقال زاد الفضل سمعت أبا عبد الله يقول كان سليمان بن حرب يحمل هذا على التقبل يقول نحن نعمل ولا ندري يتقبل منا أم لا.
قلت: والقبول متعلق بفعله كما أمر فكل من اتقى الله في عمله ففعله كما أمر فقد تقبل منه لكن هو لا يجزم بالقبول لعدم جزمه بكمال الفعل كما قال تعالى والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة قالت عائشة يا رسول الله أهو الرجل يزنى ويسرق ويشرب الخمر ويخاف فقال لا يا بنت الصديق بل هو الرجل يصلي ويصوم ويتصدق ويخاف أن لا يتقبل منه.
وروى الخلال عن أبي طالب قال سمعت أبا عبد الله يقول لا نجد بدا من الاستثناء لأنهم إذا قالوا مؤمن فقد جاء بالقول فانما الاستثناء بالعمل لا بالقول ... ) مجموع الفتاوى (7/ 446)
4 / أنه _ وللأسف الشديد _ أعطى هذا الاسم نوعا من الحصانة عند بعض الناس _ وهم قلة ولله الحمد _ فيرى أنه يغتفر له ما لا يغتفر لعامة الناس بحجة انتسابه للالتزام فربما يجوز له أن يغتاب _ ثم يصورها بأي صورة يراها مما لا يقع تحت صور النصيحة المستثناة _ لكن لا يجوز أن يصدر ذلك من عامة الناس، وربما يجوز لزوجه أو محارمه أن تلبس في الأسواق والتجمعات ملابس تظهر زينتها بينما يرى ذلك مستنكرا من غيره، وربما يعق والديه أو يقطع الرحم أو يتساهل في المعاملات المالية أو وظيفته التي يأخذ مقابلها راتبا شهريا، بل وربما يتساهل في الصلاة لا سيما صلاة الفجر ويكتفي بعد ذلك كله بأن هيئته هيئة (الملتزم) وأنه يحضر المجامع الدعوية أو المحاضرات أو غير ذلك، وغالب ما يقع التقصير في هذا الباب في الواجبات التي يسميها الشاطبي الواجبات غير المحددة كصلة الرحم وحقوق الجار وبر الوالدين وما شاكلها مما يخفى عن الناس ويغفلون عنه والتي ترجع _ كما قال الشاطبي _ لتقوى المرء في تحديدها والقيام بها.
وحقيقة إن هذا الأمر مع ما فيه من إساءة لأهل الخير والصلاح في نظر العامة يحزُّ في القلب ذكره، ويكره المرء أن يتكلم فيه لولا أنه واجب النصيحة التي لا تفرق بين مسلم ومسلم وحسبي أن أتكلم في هذا المسألة في ملتقى يقصده من يريد الخير ويحرص على طلب مرضاة الله فمن يقرأه سيحسن الظن بمرادي ويفهم مقصدي.
وإن مما شجعني على الكلام في المسألة ما رأيته في بعض المواقع _ لاسيما مواقع الليبراليين _ من سب وشتم وطعن لعباد الله الصالحين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر الذين يقضون حياتهم في طاعة الله من علم وعبادة وأمر بمعروف او نهي عن منكر، وما يذكرونه ويتبعهم عليه جهلة الناس وعوامهم ويتأثرون بكلامهم وينتج عن ذلك كره وحقد ولمز في وسائل الإعلام والمجالس، وهي ولله الحمد لا تلقى صدى واسعا في هذه البلاد؛ لأن عامة الناس هنا يحرصون على الخير ويحبون أهله ويجلون العلماء وطلبة العلم، لكن ينبغي التفريق بين الأشخاص وبين الدين فلا يجامل ويداهن في ذلك، فبيان الحق واجب لئلا ينسب إلى الشرع ما ليس منه فهذا من النصحح لله ولكتابه ولرسوله ولعامة المسلمين.
خامسا: أن اسم الملتزم لا ضابط له فكيف نحدد أن هذا ملتزم بشرع الله أو لا؟ هل المرجع في ذلك هو المظهر الخارجي له في الهيئة واللبس؟ أو الضابط عدم ظهور المعصية عليه في قوله وفعله بمعنى أنه يتعلق بفعل الواجبات الظاهرة وترك المحرمات الظاهرة أو لا؟ وهل هذا الضابط لا يتغير من بلد إلى بلد أو يتغير بمعنى أنه هل يجوز أن يكون المرء ملتزما في بلد ويكون غير ملتزم في بلد آخر بناء على الفتاوى والأحكام التي تشتهر في تلك البلد؟
¥