ولهذا فإننا نقول إن من الخطأ – غير المقصود – عند بعض المثقفين والكاتبين إثارة هذه القضايا، أعني: تطبيق الشريعة – الحجاب – تعدد الزوجات – وأمثالها في وسائل الإعلام، من صحافة وإذاعة على شكل مقالات أو ندوات بقصد إثباتها أو صلاحيتها. أما إذا كان المقصود: النظر في حِكَمِها وأسرارها وليس في صلاحيتها وملاءمتها فهذا لا حرج فيه، إذْ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (الأحزاب:36)
وأخيراً فينبني على هذا الأصل؛ أن الإصرار على إنكار المُسلَّمات والثوابت مكابرة قبيحة، ومجاراة منحرفة عن أصول الحوار والمناظرة، وليس ذلك شأن طالبي الحق.
الأصل الخامس:
التجرُّد، وقصد الحق، والبعد عن التعصب، والالتزام بآداب الحوار:
إن إتباع الحق، والسعي للوصول إليه، والحرص على الالتزام؛ وهو الذي يقود الحوار إلى طريق مستقيم لا عوج فيه ولا التواء، أو هوى الجمهور، أو الأتْباع .. والعاقل – فضلاً عن المسلم – الصادق طالبٌ حقٍّ، باحثٌ عن الحقيقة، ينشد الصواب ويتجنب الخطأ.
يقول الغزاليّ أبو حامد: (التعاون على طلب الحق من الدّين، ولكن له شروط وعلامات؛ منها أن يكون في طلب الحق كناشد ضالّة، لا يفرق بين أن تظهر الضالّة على يده أو على يد معاونه. ويرى رفيقه معيناً لا خصماً. ويشكره إذا عرَّفه الخطأ وأظهره له) .. الإحياء ج1.
ومن مقولات الإمام الشافعي المحفوظة: (ما كلمت أحداً قطّ إلا أحببت أن يُوفّق ويُسدّد ويُعان، وتكون عليه رعاية الله وحفظه.
وما ناظرني فبالَيْتُ! أَظَهَرَتِ الحجّةُ على لسانه أو لساني).
وفي ذمّ التعصب ولو كان للحق، يقول الغزالي:
(إن التعصّب من آفات علماء السوء، فإنهم يُبالغون في التعصّب للحقّ، وينظرون إلى المخالفين بعين الازدراء والاستحقار، فتنبعث منهم الدعوى بالمكافأة والمقابلة والمعاملة، وتتوفر بواعثهم على طلب نُصرة الباطل، ويقوى غرضهم في التمسك بما نُسبوا إليه. ولو جاؤوا من جانب اللطف والرحمة والنصح في الخلوة، لا في معرض التعصب والتحقير لأنجحوا فيه، ولكن لمّا كان الجاه لا يقوم إلا بالاستتباع، ولا يستميل الأتْباع مثلُ التعصّب واللعن والتّهم للخصوم، اتخذوا التعصب عادتهم وآلتهم).
والمقصود من كل ذلك أن يكون الحوار بريئاً من التعصّب خالصاً لطلب الحق، خالياً من العنف والانفعال، بعيداً عن المشاحنات الأنانية والمغالطات البيانيّة، مما يفسد القلوب، ويهيج النفوس، ويُولد النَّفرة، ويُوغر الصدور، وينتهي إلى القطيعة.
وهذا الموضوع سوف يزداد بسطاً حين الحديث عن آداب الحوار إن شاء الله.
الأصل السادس:
أهلية المحاور:
إذا كان من الحق ألا يمنع صاحب الحق عن حقه، فمن الحق ألا يعطى هذا الحق لمن لا يستحقه، كما أن من الحكمة والعقل والأدب في الرجل ألا يعترض على ما ليس له أهلاً، ولا يدخل فيما ليس هو فيه كفؤاً.
من الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من كان على الباطل.
من الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من لا يعرف الحق.
من الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من لا يجيد الدفاع عن الحق.
من الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من لا يدرك مسالك الباطل.
إذن، فليس كل أحد مؤهلاً للدخول في حوار صحي صحيح يؤتي ثماراً يانعة ونتائج طيبة.
والذي يجمع لك كل ذلك: (العلم)؛ فلا بد من التأهيل العلمي للمُحاور، ويقصد بذلك التأهيل العلمي المختص.
إن الجاهل بالشيء ليس كفؤاً للعالم به، ومن لا يعلم لا يجوز أن يجادل من يعلم، وقد قرر هذه الحقيقة إبراهيم عليه السلام في محاجَّته لأبيه حين قال: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} (مريم:43).
وإن من البلاء؛ أن يقوم غير مختص ليعترض على مختص؛ فيُخَطِّئه ويُغَلِّطه.
وإن حق من لا يعلم أن يسأل ويتفهم، لا أن يعترض ويجادل بغير علم، وقد قال موسى عليه السلام للعبد الصالح:
{قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} (الكهف:66).
¥