قوله (فضج ناس من أهله) لأنهم فهموا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أن الرجل قد مات, وكان قبل ذلك يرجى أن تعود إليه الروح والحياة. وقوله (لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير) لأن الغالب أن الإنسان في هذه الحال مع شدة الفزع يدعو على نفسه بالهلاك أو بالبوار أو بأي شيء. جاء في بعض الألفاظ (واخلفه في عقبه في الغابرين, واغفر لنا وله يا رب العالمين, وافسح له في قبره ونوِّر له فيه). وتعرض العلماء والشرَّاح والمفسرون لبيان حقيقة الروح, لكن الأولى ألا يُتَعرَّض لها, وكل من تكلم فيها كلامه ضربٌ من الظن والتخمين, لأن الله عز وجل قطع الطريق على من أراد أن يتكلم فيها, ولم يجب سبحانه من سأل عنها. وجاء الأمر بالكف عن الأسئلة التي يترتب بعضها على بعض, والشيطان يلقي على لسان الإنسان أسئلة تكون فيها شبهات, فإذا وصل الإنسان إلى هذا الحد عليه بالتسليم, وهناك شبه لا يمكن الجواب عنها, ولذا يخطئ في حق عوام المسلمين من يطلب المناظرة أمامهم في مسائل كبرى, فقد يوجد شبه لا يستطيع المدافع أن يجيب عنها, فما موقف طلاب العلم فضلاً عن العوام في مثل هذه الشبه؟ لأن الشبه إذا علقت بالأذهان يصعب اجتثاثها, ولا يمكن أن يوجد من تتوافر فيه الأهلية لأن يجيب على جميع الشبه, لأن العقل البشري لا يدرك كل شيء, فهناك أمور لا بد أن يقف عندها المسلم, كما قال أهل العلم (قدم الإسلام لا تثبت إلا على قنطرة التسليم).
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهَا: {أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ تُوُفِّيَ سُجِّيَ بِبُرْدٍ حِبَرَةٍ} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
التسجية هي التغطية, والبرد الحِبَرة هو المخطط وفيه أعلام, وقد غطي عليه الصلاة والسلام بذلك بعد أن مات وقبل تغسيله وتكفينه. وهذه التسجية مطلوبة لئلا ينكشف الميت فيبدو منه شيء, لأن الميت إذا مات وفارقت روحه بدنه تتغير صورته فيفزع رائيه.
وَعَنْهَا {أَنَّ أَبَا بَكْرٍ اَلصِّدِّيقَ رضي الله عنه قَبَّلَ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مَوْتِهِ} رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.
تقبيل الميت ولا سيما بالنسبة لذويه ومحبيه سنة, وقد قبَّل النبي عليه الصلاة والسلام عثمان بن مظعون وهو ميت والنبي عليه الصلاة والسلام عيناه تذرفان رحمةً وشفقةً ومودة لهذا الصحابي. وهذا كالتوديع له.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {نَفْسُ اَلْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ, حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ} رَوَاهُ أَحْمَدُ, وَاَلتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ.
الميت لا يزال مشغولاً يهمه أمر الدين, لأنه سوف يطالب به ويحاسب عليه, فإذا قضي عنه دينه بردت جلدته. وقد ورد التشديد في أمر الدين, حتى إن النبي عليه الصلاة والسلام ترك الصلاة على المدين حتى ضُمِن دينه, وجاء أن الشهيد يغفر له عند أول دفعةٍ من دمه إلا الدين. والدين في الحياة ذلٌّ في النهار وهمٌّ في الليل, وقال بعضهم إنه ما دخل الدين في قلبٍ امرئٍ إلا ذهب من عقله بقدره ما لا يعود إليه.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي اَلَّذِي سَقَطَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَمَاتَ: {اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ, وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
كان هذا الرجل واقفاً بعرفة, وقد سقط عن راحلته فوقصته فمات. وقد جاء في رواية (ولا تحنطوه) وجاء في رواية (وكفنوه في ثوبيه) يعني في الإزار والرداء. وقوله (اغسلوه بماءٍ وسدر) هل معناه أن يُخلَط السدر مع الماء أو يكون السدر مستقلاً ويصب عليه الماء أو يكون السدر في غسلة من الغسلات ويتابع عليه الماء بدون سدر؟ لأن أهل العلم يختلفون في مسألة (ما يخالط الماء من الطاهرات هل يسلبه الطهورية أم لا) وقد تقدمت في كتاب الطهارة, لكن يُغسَل بالماء والسدر ثم بعد ذلك يُتبَع بالماء, ويُجعَل السدر في الماء ويُغسَل به لمزيد النظافة. وغسل الميت تعبدي, لا لنجاسته ولا لأن الموت حدث موجب للغسل. وفي الحديث أمر بالغسل, ولذا عامة أهل العلم على أن غسل الميت فرض كفاية, فلو تُرِك الميت المسلم دون غسل أثم من علم بحاله, وإن رجح بعضهم من المالكية أنه سنة, لكن الأمر صريح في ذلك, وجاء الأمر في حديث أم عطية في قوله (اغسلنها).
¥