عبد الله بن أُبَي هو رأس المنافقين, الذي نُهِي النبي عليه الصلاة والسلام عليه, وأخباره كثيرة شهيرة في مضادته ومحادته للدعوة ولصاحبها عليه الصلاة والسلام, ومات على نفاقه, نسأل الله السلامة والعافية.
قوله (أعطني قميصك أكفنه فيه) هذه محبة جبلية من الابن تجاه أبيه, وإلا فالمنافق عدو لا تجوز مودته ولا محبته, لكن هذه جبلة, ولو عارضت المحبة الجبلية المحبة الشرعية والحكم الشرعي صارت محرمة, ولو قدم هذه المحبة الجبلية على أوامر الشرع لم يكن الله ورسوله أحب إليه مما سواهما, ولو كان هذا مما نهي عنه لم يجرؤ الابن على طلبه من رسول الله صلى الله عليه وسلم, والابن مجبولٌ على حب أبيه والبحث عن شيء لعلَّه ينفعه.
وسبق أن إعطاءه القميص كان مكافأة, فإن العباس لما أُسِر ببدر كساه عبد الله بن أُبَي قميصاً, فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يكافئه. وقد جاء ما يدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام لما دُفِن ابن أُبَي كساه النبي عليه الصلاة والسلام قميصه ونفث فيه من ريقه, فهل المراد أنه لما دُفِن نبش النبي عليه الصلاة والسلام قبره وألبسه قميصه ونفث فيه من ريقه؟ أو أنهم لما أرادوا دفنه ودَلَّوه في قبره كساه النبي عليه الصلاة والسلام قميصه؟ الفعل الماضي يطلق ويراد به حقيقته, وهو حصل الفعل والفراغ منه, ويطلق ويراد به الشروع فيه, ويطلق ويراد به إرادته, والرواية التي فيها أنه لما دُفِن ألبسه قميصه صحيحة, في البخاري وغيره, لكن الرواية المتفق عليها أنه أعطاه القميص قبل أن يُكَفَّن, وعلى الرواية التي فيها أنه لما دُفِن ألبسه قميصه يحتمل أنه نبشه بعد دفنه ويحتمل أنه بعد أن دُلِّي في القبر وقبل أن يُدفَن ألبسه القميص. والروايتان بمجموعهما تدلان على أنهما قميصان, لأن هذا طلبه الابن فأعطاه إياه ليكفنه, ولما جاء يطلب من النبي عليه الصلاة والسلام القميص ليكفنه لم يكن أباه قد كُفِّن, فكفنه في هذا القميص, والنبي عليه الصلاة والسلام لما جاء إليه بعد دفنه وأخرجه من قبره ونفث فيه من ريقه وألبسه قميصه يدل على أنه قميص آخر. ومنهم من يقول إن ما جاء في حديث ابن عمر هو مجرد عِدَة, يعني وعده أن يعطيه القميص, فلما حصل ما حصل ذهب إليه وألبسه إياه في قبره, ومنهم من يقول هما قميصان, لكن مجموع النصوص يدل على أنه قميص واحد.
ومثل هذا التصرف من النبي عليه الصلاة والسلام لا شك أنه يترتب عليه مصالح, لأن هذا الميت كان كبير قومه, ومثل هذه التصرفات تؤثر في قومه, وله ابن مصاب به, فتخفيف المصيبة على الابن بهذا التصرف لا شك أنه لائق بخلقه عليه الصلاة والسلام.
وهذا الحديث دليل لمن يستحب التكفين بالقميص, لأن هذا فعل النبي عليه الصلاة والسلام, وذاك ما فُعِل به, على أنه يمكن التوفيق بينهما بأن تكون الثلاثة غير القميص والعمامة, لكن الظاهر من النص أن القميص لا يوجد في أكفانه عليه الصلاة والسلام, وإنما أكفانه ثلاثة فقط.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضَ, فَإِنَّهَا مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ, وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ} رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ, وَصَحَّحَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ.
قوله (فإنها من خير ثيابكم) أي أطيب وأطهر, لأن القذر يظهر فيها أكثر من غيرها, فيُسارَع إلى تنظيفها وتطهيرها, والألوان الأخرى قد يقع عليها شيء من النجاسة فلا يُشعَر به. وإذا كان الغالب عليه البياض فلا يضره أن يلبس معه غيره, والنبي عليه الصلاة والسلام لبس غير البياض لبيان أن هذا الأمر أمر استحباب, والذي يعتني بهذا الأمر ولا يلبس إلا البياض لا شك أنه أسعد بمثل هذا النص, لكن من لبس ثوباً أبيض وجعل ما زاد على ذلك بلونٍ آخر فإنه لا يُثرَّب عليه. واشتهر بين الناس قبل ثلاثين سنة أن الغترة البيضاء لا يلبسها إلا الناس الأقل في الاستقامة والالتزام, وأما أهل الفضل والخير والصلاح فإنهم يلبسون الشماغ الأحمر, حتى كان جواب بعض أهل العلم بهذا, لما سئل وقيل له لم لا تلبس الغترة البيضاء والنبي عليه الصلاة والسلام يقول (البسوا من ثيابكم البياض)؟ فكان جوابه: لما لبستها أنت وأمثالك تركناها. لكن يبقى أن من يُعنَى بالبياض أسعد بمثل هذا النص.
¥