قوله (وكفنوا فيها موتاكم) تقدم أن النبي عليه الصلاة والسلام كُفِّن في ثلاثة أثوابٍ بيض, والأصل في الأمر الوجوب, لكن لبس النبي عليه الصلاة والسلام غير الأبيض.
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم {إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ} رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
قوله (فليحسن كفنه) أي ليكن نوعه حسناً ولونه حسناً, ولتكن الكمية كافية ضافية, والمقصود إحسان الكفن من كل وجه. وسيأتي حديث علي وهو ضعيف (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ولا تغالوا في الكفن, فإنه يسلب سلباً سريعاً) لأن مآله إلى الذهاب والبلى, لكن إحسان الكفن مطلوب لحديث جابر الصحيح, والمغالاة ممنوعة سواء كانت في الكفن أو في غيره, فالنهي عن المغالاة لا يعارض الأمر بإحسان الكفن, فيكون إحسانه بدون مغالاة وبدون إسراف.
وَعَنْهُ قَالَ: {كَانَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ بَيْنَ اَلرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحَدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ, ثُمَّ يَقُولُ: "أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ?", فَيُقَدِّمُهُ فِي اَللَّحْدِ, وَلَمْ يُغَسَّلُوا, وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ} رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.
قوله (كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد) يتطرقه احتمالان: الاحتمال الأول أن الرجلين يُدرَجان في كفنٍ واحد, بمعنى أنهما يلفان لفاً واحداً, والاحتمال الثاني أن الرجلين يُقسَم بينهما الثوب الواحد, فإن كفى جميع البدن, وإلا غطيت العورة والرأس وما يليه, وهذا أفضل من أن يدرَج الاثنان إدراجاً واحداً, بحيث تمس بشرة أحدهما بشرة الآخر, وهذا الاحتمال يرى بعضهم أنه هو المتعين. والاحتمال الأول يكون عند الضرورة, إذا لم يوجد إلا كفن واحد لمجموع الاثنين بحيث يدرجان فيه إدراجاً واحداً, لأنه قد لا تكفي القطعة الصغيرة التي تكفي للفِّهما مرة واحدة معاً لو قُطِعت بينهما, كما هو الاحتمال الثاني, فهذا للضرورة, وهو الاحتمال الأول.
قوله (يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد) لأن القتل كَثُر في غزوة أحد, ولا شك أن مثل هذا يوجِد حاجة وضرورة إلى كثرة الثياب وإلى كثرة القبور.
قوله (أيهم أكثر أخذاً للقرآن؟ فيقدمه في اللحد) بمعنى أنه يُجعَل في القبر الواحد أكثر من واحد, لكن الذي يظهر أنهم يجعلون بين كل اثنين شيئاً من التراب. ولا شك أن هذا فرع من فروع ما يُكسِبه القرآن صاحبه من الرفعة والتقديم والإجلال في الدنيا والآخرة. وظاهر النص أن الأكثر حفظاً للقرآن يُقدَّم في الدنيا, والله يتولاه في الآخرة إن كان مخالفاً للقرآن, وهذا من باب قوله عليه الصلاة والسلام (إن الله يرفع بهذا القرآن أقواماً ويضع به آخرين). وهذا وصف فاصل, والأوصاف الأخرى قد تخفى, فالمفاضلة التقوى تحتاج إلى شيء من الدقة, لأنه قد يخفى أمر كثير من الناس إذا أردت المفاضلة بينهم, لأن عند هذا ما ليس عند هذا, وعند هذا ما ليس عند الآخر.
قوله (ولم يُغسَّلوا, ولم يُصلَّ عليهم) الشهداء لا يُغسَّلون, والشهيد لا يحتاج إلى من يشفع له, بل هو يشفع لغيره, والصلاة على الميت شفاعة للميت ودعاء له بمغفرة الذنوب, والشهادة تجب هذه الذنوب من غير طلب, فقد جاء أن الشهيد يغفر له كل شيء عند أول قطرة من دمه إلا الدين. وبعض السلف كسعيد بن المسيب والحسن يقولون إنه يجب غسله كغيره, لكن حديث الباب الصحيح نص في المسألة أنه لا يُغسَّل. وجاء أنه يدفن بدمه ويبعث يوم القيامة وجرحه يثعب بدماً اللون لون الدم والريح ريح المسك, فإذا غسَّلناه أذهبنا هذا الأثر, فالمعتمد أنه لا يُغسَّل, وبهذا قال الجمهور.
والجمهور على أن الشهيد لا يصلى عليه, لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يصل على قتلى أحد, وذهب الحنفية وإسحاق إلى أنه يصلى عليه كغيره, لعموم أدلة الصلاة على الميت, ولأن النبي عليه الصلاة والسلام صلى على شهداء أحد بعد ثمان سنين كالمودع لهم, ولم يصل عليهم في أول الأمر كما في حديث الباب, وعندهم الصلاة على القبر لهم فيها شروط, ولا يدخل فيها طول المدة. لكن كيف يجيب الجمهور عن صلاته على شهداء أحد بعد ثمان سنين كالمودع لهم؟ قال جمع من أهل العلم إن المراد بالصلاة - في قصة صلاته عليهم بعد ثمان سنين - الصلاة اللغوية وهي
¥