ـ[أبوهاجر النجدي]ــــــــ[24 - 11 - 07, 01:31 م]ـ
"المجلس الخامس"
وَعَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحَصِيبِ الْأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم {كنت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا} رَوَاهُ مُسْلِم. زَادَ اَلتِّرْمِذِيُّ: {فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْآخِرَةَ}. زَادَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: {وَتُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا}.
جاء النهي رافعاً للإباحة الأصلية, ثم رُفِع هذا الرافع, فالنهي عن زيارة القبور منسوخ, والدليل على النسخ يؤخذ من لفظ الحديث. قوله (فزوروها) أمر, وحكمه عند عامة أهل العلم الاستحباب, لوجود العلة والأثر المترتب على الزيارة, وهو قوله (فإنها تذكِّر الآخرة) وفي اللفظ الآخر (وتزهِّد في الدنيا) فالعلة تدل على الاستحباب, وإن كان الأصل في الأمر الوجوب, وقال بعضهم بوجوبها اتباعاً للأمر, لكن العلة تدل على السنية. قد يقول قائل إن هذا أمر بعد حظر, وبعضهم يطلق في الأمر بعد الحظر الإباحة كما في قوله تعالى (إذا حللتم فاصطادوا) وقوله تعالى (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا) لكن المحقق أن الأمر يعود إلى ما كان عليه قبل الحظر, وهنا الأمر لا شك أنه للاستحباب, والعلة تدل على هذا. قال تعالى (ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر) يعني شغلكم التكاثر في الأموال والأولاد وفي أمور الدنيا حتى حصلت لكم هذه الزيارة حال كونكم أحياء أو حال كونكم أمواتاً, لأن الميت إذا دفن في قبره فهو زائر, ولذا لما سمع الأعرابي قوله تعالى (ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر) قال: بُعِث القوم ورب الكعبة. فأخذ من هذه الآية دليلاً على البعث, لأن الزائر لا بد أن يعود, ولا يمكث في مكانه. ولا شك أن في زيارة القبور الأثر النافع سواء للزائر نفسه بالاعتبار أو للمزور. بعض الناس يزور القبور لكن لا يحصل له الأثر, لما غشى القلوب من الران وغطى عليها من الشبهات والشهوات. وكان الناس إذا مُرَّ بالجنازة في الشارع يتأثرون أسبوعاً, وليس السبب الخوف من الموت, وإنما السبب الخوف مما بعد الموت, والخوف النافع هو الذي يبعث على العمل. ومن أراد أن يستفيد في هذا الباب فليقرأ تفسير القرطبي في سورة (ألهاكم التكاثر) وقد قال إن كثيراً من الناس يزور المقابر لكن بعد مدة يجد الأمر عادياً, فهذا عليه بمشاهدة المحتضرين, لأن مشاهدة المحتضر يبقى لها أثر حتى مع طول المدة, لأنها ليست على لون واحد بل على ألوان, وكل إنسان من المحتضرين له ما يخصه من هذه الألوان, فلا بد أن يجد ما يؤثر فيه. قوله (فزوروها) خطاب للرجال, والنساء يدخلن في عموم خطاب الرجال, وجاء في مريم عليها السلام أنها كانت من القانتين, لكن جاء ما يخص المرأة في حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه {أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ} أَخْرَجَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّان.
هذا الحديث صحيح بشواهده, وهو يدل على منع النساء من زيارة القبور وإخراجهن من النص العام, وذلك لما جُبِل عليه النساء من التأثر وعدم التحمل. جاء في لفظ (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوَّارات القبور) بصيغة المبالغة, وهذا اللفظ جعل بعض العلماء يحمله على المكثرات من الزيارة, لكن إذا كان العمل بمفرده مباحاً فكيف يُلعَن من كرره؟ وهنا (زائرات) يعني ولو مرة واحدة يصدق عليها أنها زائرة, فمن تزور مرة واحدة يشملها الحديث, ومن تكرر الزيارة يشملها الحديث أيضاً. واللعن دليل على أن الزيارة بالنسبة للمرأة كبيرة من كبائر الذنوب. جاء أن عائشة رضي الله عنها زارت أخاها عبد الرحمن بن أبي بكر, وهذا بعد وفاته عليه الصلاة والسلام, وقالت فيما أخرجه مسلم: كيف أقول يا رسول الله إذا زرت القبور؟ قال: قولي (السلام عليكم أهل الديار من المسلمين والمؤمنين, يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين, وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) فأخبرها ما تقول, ولم يقل لها إن الزيارة حرام, وهذا يمكن تخريجه على أنه كان قبل اللعن, وأما ما حصل منها بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام من زيارة أخيها عبد الرحمن فهو اجتهاد منها لا يعارَض به المرفوع, ولها اجتهادات لم توافَق عليها.
¥