لو مر إنسان بمقبرة خارج السور فإنه يسلم, ويحمل قول عائشة (كيف أقول إذا زرت القبور) على أنه مجرد مرور, وبعضهم يمنع من السلام بحجة أنه لم يزر ولم يدخل فكيف يسلم قبل الدخول؟!! لكن نقول: السلام قبل الدخول بالنسبة للأحياء مشروع, وكذا السلام على الأموات قبل دخول المقبرة لا مانع منه, ثم إنه لو قلنا إنه لا يسلم إلا بعد الدخول والمار لا يسلم لقلنا انقطع التسليم على النبي عليه الصلاة والسلام, لأنه لا يمكن الدخول عليه, وكان ابن عمر يمر بقبره عليه الصلاة والسلام وقبري صاحبيه من وراء الحجرة ويسلم, وعلى هذا إذا مر بجوار مقبرة قال (السلام عليكم أهل الديار من المسلمين والمؤمنين, يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين, وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) كما يفعل إذا مر بقبره عليه الصلاة والسلام من وراء ثلاثة جدران ويقول (السلام عليك يا رسول الله, السلام عليك يا أبا بكر, السلام عليك يا عمر). فيلزم من قولنا إنه لا يسلم من خارج المقبرة أنه لا يسلم على النبي عليه الصلاة والسلام, والحاصل الآن ليست الزيارة للقبر وإنما الزيارة للروضة, والقبر دونه ثلاثة جدران لا تمكن زيارته, ووقوف المرأة خارج السور لا يأخذ حكم الزيارة التي تباشر القبور, وعلى كل حال الأمر فيه سعة إن شاء الله تعالى. قوله عليه الصلاة والسلام (بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) خطاب يخاطب به الرجال والنساء, وقد يقول قائل: ما الذي يخص هذه الروضة من العبادات؟ ومنهم من يقول إن قوله (روضة من رياض الجنة) كما يقال (النيل والفرات من أنهار الجنة) ولا يستحب للناس أن يسبحوا في النيل والفرات, وعلى هذا لا يصلى في الروضة ولا يقرأ في الروضة أكثر مما في غيرها, لكن نقول: هذه البقعة يشملها عموم قوله عليه الصلاة والسلام (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا) وتفسير رياض الجنة بحلق الذكر تفسير ببعض الأفراد ولا يقتضي التخصيص, كتفسير الظلم بالشرك وتفسير القوة بالرمي وما أشبه ذلك.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: {لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اَلنَّائِحَةَ , وَالْمُسْتَمِعَةَ} أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: {أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا نَنُوحَ} مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
قوله (والمستمعة) لأنها شريكة للنائحة, لكن الحديث ضعيف, ويغني عنه حديث أم عطية, ولا شك أن اللعن أشد من أخذ البيعة على شيء, وإن كانت هذه البيعة مقابل رأس المال وهو الإسلام. والنياحة هي رفع الصوت بذكر محاسن الميت وإظهار الجزع عليه, وحديث أم عطية دل على أنها حرام, وجاءت البراءة من النائحة, وفي الحديث المتفق عليه (ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية) وفيه (أنا بريء ممن حلق وصلق وخرق) أي من الحالقة والصالقة والشاقة التي تشق الثوب, والمقصود أن مثل هذا حرام, بل من كبائر الذنوب, لكن لا مانع من أن يبكي الإنسان من غير رفع صوت, فالعين تدمع والقلب يحزن, وقد فعله النبي عليه الصلاة والسلام, وهذا رحمة. وإذا صحب البكاء صوت فهو ممنوع.
وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه عَنِ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {اَلْمَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ} مُتَّفَقٌ عَلَيْه. وَلَهُمَا: نَحْوُهُ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَة.
الشارح مشى على أن راوي الحديث ابن عمر, وهو ثابت من حديث عمر ومن حديث ابن عمر, وعائشة رضي الله عنها استدركت على عمر وعلى ابنه. قوله (يُعذَّب في قبره بما نيح عليه) يعني يُعذَّب ببكاء أهله عليه, ومفاده أنه يؤاخذ بعمل غيره, فيكون معارضاً بقوله تعالى (ولا تزر وازرة وزر أخرى). هذا وزر من ناح ومن بكى فكيف يؤاخذ به الميت الذي لم ينح ولم يبك؟!! ولذا عائشة أنكرت هذا الحديث على عمر, وكذلك أنكره أبو هريرة. وأهل العلم لهم أجوبة عن هذا, منهم من يقول إن هذا محمول على ما لو عرف الميت أن من عادة أهله البكاء والنياحة ولم ينههم عن هذا, فيكون عذابه ضريبة سكوته على هذا المنكر, ولا شك أن سكوته عن قول الحق حينما يجب الإنكار له وزره وعليه إثمه, ومنهم من قال إن الحديث فيمن أوصى بأن يبكى عليه ويناح عليه, والوصية بذلك معروفة عند العرب, يقول قائلهم:
¥