خامسا: نستطيع أن نتبين الجهد الذي بذله يحيى بن معين في راو واحد مثل حماد بن سلمة، فلو افترضنا أن كتب حماد تبلغ خمسمائة حديث فقط بخمسمائة إسناد (وهذا قليل لما عرف عن حماد من سعة في الرواية) فيكون ابن معين سمع هذه الأحاديث بأسانيدها ثمانية عشر مرة وعارض رواية كل حديث بين تلاميذ حماد تلميذا تلميذا، وسبر المتون والأسانيد لكل واحد منهم، فمعنى ذلك أنه سمع عشرة آلاف حديث ودرس أسانيدها ومتونها وعارض بينها ووازن ليعرف ويميز أخطاء راو واحد، فكم احتاج ليوازن مرويات حماد نفسه مع مرويات أقرانه؟!
سادسا: يعتمد ابن معين على ملاحظة المخالفة بين الروايات، وقد ذكرنا قبل أن معرفة الاختلاف هو روح منهج النقد عند المحدثين، لأنهم علموا أن الخطأ يكون من الشاذ غالبا، ولا تقدم مخالفة الفرد إلا إذا كان في مكانة من الحفظ تفوق كل من خالفه مجتمعين، مثل أن يخالف شعبة عشرة من الضعفاء، فإن النقاد يحكمون لشعبة بالإصابة لأن حفظه أصل يقاس عليه، وضعف غيره فرع يتطلب أصلا، فكيف يجعل الفرع أصلا يحاكم على أساسه الأصل؟.
ثانيا: المعارضة لمعرفة حال المروي
والمقصود به: اعتبار الشواهد والمتابعات والموازنة بينها لترقية حال الحديث الضعيف، ويحسن بنا أن نعرف بعض الاصطلاحات في هذا الباب على سبيل الاختصار.
فالمتابعة هي مشاركة راو من الرواة لغيره في رواية الحديث عن نفس الشيخ بذات الطريق (السند) وذات المتن.
فلو روى سعيد بن المسيب عن أنس بن مالك حديثا ثم روى نفس هذا الحديث عن أنس: قتادة بن دعامة السدوسي، سميت روايته متابعة.
والشاهد هو أن يروي معنى الحديث بلفظ مغاير وسند مختلف (طريق صحابي مختلف).
والاعتبار هو سبر المتابعات والشواهد واختبار صلاحيتها أن تعاضد الرواية النازلة.
والنقاد لا يعتبرون أي متابع أو شاهد يجدونه من طرق الحديث، بل لهم في ذلك منهج ونظام.
" والقاعدة التي يقوم عليها هذا الباب ويعتمد عليها في تمييزما يصلح وما لا يصلح للاعتبار إنما تقوم على أساسين لا نزاع فيهما ولا خلاف عليهما:
الأساس الأول: أن الرواية التي ترجح فيها وجه الخطأ إسنادا ومتنا لا تصلح للاعتبار أو الاستشهاد. والخطأ قد يكون في الراوي أو المروي.
فالخطأ الراجح في الراوي كأن يكون الراوي المتفرد بالرواية (التي يراد الاعتبار بها) ضعفه شديد لكذب أو تهمة أو شدة غفلة، فمثل هذه الرواية لا تصلح للاعتبار لرجحان جانب الخطأ فيها.
والخطأ الراجح في المروي بأن يترجح أن الرواية (التي يراد الاعتبار بها) في نفسها خطأ فتعد من المنكر أو الشاذ الذي لايعتبر به.
وإلى هذا الأساس الأول اشار الحافظ ابن حجر في النكت فقال: " لم يذكر – يعني ابن الصلاح – للجابر ضابطا يعلم منه ما يصلح أن يكون جابرا أو لا، والتحرير فيه أن يقال: إنما يرجع إلى الاحتمال في طرفي القبول والرد، فحيث يستوي الاحتمال فيهماه فهو الذي يصلح لأن ينجبر، وحيث يقوى جانب الرد فهو الذي لا ينجبر، وأما إذارجح جانب القبول فليس من هذا، بل ذاك في الحسن الذاتي والله أعلم ".
الأساس الثاني: أن الخطأ هو الخطأ مهما كان موضعه، لا فرق بين خطأ في الإسناد وخطأ في المتن، فإذا تحقق من وقع خطأ في الرواية في إسنادها أو متنها لا يعرج على هذا الخطأ ولا يعتبر به، بل هومنكر، له ما للمنكر وعليه ما على المنكر. ولهذا لم يصحح الأئمة حديث: " إنما الأعمال بالنيات " إلا ن طريق واحدة وحكموا على سائر طرقه بالخطأ والنكارة، ولم يقووا الحديث بها. وبهذا قال ابن حجر: " وقد وردت لهم – أي لرواة حديث إنما الأعمال بالنيات – متابعات لا يعتبر بها لضعفها ".