[من مخاطر (فيه قولان)]
ـ[أبو عمر الجداوي]ــــــــ[11 - 06 - 10, 04:07 م]ـ
من مخاطر فيه قولان
الجمعة 11, يونيو 2010
الدكتور محمد بن إبراهيم السعيدي ( http://ahlalhdeeth.com/vb/index.cfm?do=cms.author&authorid=161)
لجينيات ـ منذ أن عرفت بلادنا الفتوى المؤسسية بل وقبل ذلك بكثير وفتوى العلماء تكاد تكون واحدة في الأمور العامة , أي التي يعم بها البلاء -كما يعبر الأصوليون- بحيث لا تكون الحاجة إليها خاصة بفرد أو حالة أو ناحية , بل تكاد تكون مطلبا لجميع الأفراد مع اختلاف أحوالهم وبيئاتهم.
وقد أثر ذلك إيجابا على عادات الناس وتقاليدهم حيث تكونت هذه على وفق تلك الفتاوى الواحدة مظهرة بذلك انسجاما منقطع النظير بين الفتاوى الشرعية والعادات الاجتماعية بلغ حده أن الكثير من الكتاب المتأخرين اختلط عليهم الأمر فظنوا أن الفتوى تابعة للسائد الاجتماعي و خفيت عليهم الحقيقة التاريخية وهي أن العكس هو الصحيح.
ومن أمثلة ذلك غطاء الوجه للمرأة, فالمكون له في الأساس هو الفتوى لا العادة بدليل أن النساء في بعض المناطق كن لا يغطين وجوههن , إلى أن شاعت بينهن هذه الفتوى التي أدى تعظيمها في نفوسهن إلى التخلي عن مألوف أمهاتهن من عشرات السنين إلى ما يرين أنه هو شرع الله سبحانه وتعالى.
وكذلك الأمر في اختلاط النساء بالرجال , فقد شكلت الفتوى بتحريمه عادة وتقليدا مطردا عند معظم أفراد المجتمع السعودي ظهر أثره جليا في كثير من معالم حياتهم ابتداء بعلاقاتهم الاجتماعية وانتهاء بأسلوبهم الخاص في بناء بيوتهم على نمط يتوافق مع الفتوى المحترمة بتحريم الاختلاط وذلك فيما لم يكن عفويا أو طارئا يسيرا أو ضروريا.
ومثل ذلك أيضا القول بوجوب صلاة الجماعة فقد صبغ بشكل ملحوظ عادات الناس وأسلوب توزيعهم لأوقاتهم , حين رسخ علاقتهم بالمسجد وجعل حركة السير أزمانا طويلة تشهد ضعفا ملحوظا أثناء أوقات الصلاة المفروضة , كما انبنى على هذه الفتوى أن صارت صلاة الجماعة إحدى المقومات التي يوزن بها الأفراد عند السؤال عنهم وبغية تزكيتهم.
هذه أمثلة ثلاثة , ويمكن للمتتبع أن يرصد في هذا السياق العديد من الفتاوى التيي كان لها أثر كبير في تكوين العادات التي صبغت الشخصية السعودية بصبغة سماها بعض الباحثين:الخصوصية , وهي صبغة أصبح آخرون اليوم يحاولون نفيها جاهدين ليقطعوا علاقة العادات بالفتاوى , أو ليوهموا أنفسهم بتبعية الفتاوى للعادات.
اليوم نشهد ثورة كبرى على الفتوى الواحدة في الأمور العامة , مرة بحجة تقديم الدليل ومرة بحجة التنوع الثقافي ومرة بحجة عدم الإنكار في مسائل الخلاف , ومرة بحجة مراعاة الأقلية , ومرة بحجة مراعاة النظرة العالمية لمجتمعنا.
وهذه الحجج تصدر عن أناس متباينين في توجهاتهم وما يعبر عنه النظر الكلي لطروحاتهم , فمنهم الأتقياء الأنقياء طلبة العلم الشرعي وهم قليل جدا في هذه الكفة , ومنهم الأهوائيون وجهلة الكتاب وهم الأكثر عددا والأكبر تأثيرا , ومنهم الليبراليون أصحاب الفكر التغريبي الذي لا يعنيه الدليل إلا بالقدر الذي يستطيع استخدامه به لضرب التوجه الديني ورموزه.
ومع تباين مواقعهم إلا أنهم يشتركون في الإصرار على مطالبة المفتين في المسائل العامة كما في المسائل الخاصة بحكاية الخلاف للمستفتي وبيان قوة القول الآخر ووجاهته قبل أن يرجح خلافه.
فإذا سألت الأمة بأسرها عن حكم كشف الوجه للمرأة وجب على المفتي أن يقول فيه قولان معتبران كل منهما تسنده أدلة صحيحة.
وإذا سأل المجتمع عن الاختلاط وصلاة الجماعة قيل له مثل ذلك وهكذا.
والمؤسف لي أن هذا التوجه أصبح له شيوعا وذيوعا في صحافتنا وإعلامنا ومجامعنا العلمية بحيث قدم لنا نذير هدم لبناء لن نعرف قيمته حتى يخر علينا سقفه وتداعى أحجاره , وأعني به بناء الوحدة والامتزاج بين الأعراف والفتاوى الشرعية , ذلك البناء الذي حقق لنا ولمدة ليست بالقصيرة أمنا فكريا وثقة مجتمعية وسياسية منقطعة النظير بالعلم الشرعي وأهله أجزم أنه لم يكن لها وجود في سائر العالم الإسلامي سوى في بلادنا حرسها الله من كل سوء.
نعم أريد أن تكون الفتوى في الأمور العامة واحدة , وأن لا يخرج الناس فيها عن المؤسسة العلمية الرسمية , وأن يمنع أهل العلم من الفتوى في هذه القضايا إلا على سبيل المدارسة والمذاكرة , كما أدعو إلى أن يؤطر الناس على العمل بها والإنكار على مخالفيها.
فإن هذا المسلك سيكفل لنا إعادة الثقة بالفتاوى الشرعية التي سيؤدي القبول العام لها لأن يعود العمل بمقتضاها عرفا مجتمعيا يتواطؤ الناس عليه ليحققوا به وحدة أخلاقية تظهر في جميع معالم حياتهم مشكلة انسجاما بين العرف والدين لا يمكن تحقيقه في أجواء أخرى تؤمن بالقولين والثلاثة دون التفريق بين المسائل الخاصة كالأخطاء الشخصية في الطهارة والصلاة وبعض المعاملات التجارية , وبين المسائل العامة التي يترتب عليها تنظيم حياة المجتمع بأسره وعلاقته بأفراده وحكامه , كمسألة حدود التعبير عن الرأي وبيوع الآجال والاختلاط وكشف الوجه وسفر المرأة دون محرم وأحكام الحضانة والنفقات وولاية القاصرين وغيرها من الأحكام التي تأخذ صفة عموم البلوى بها.
المجتمع لن يبقى دون عرف سائد مستقر كما هو حال كل تجمع إنساني , وفي ظل القولين والثلاثة في القضايا العامة التي عادة ما تتشكل منها أعراف المجتمعات سيصل المجتمع بشكل تلقائي إلى استقراره على أعراف غير ملتزمة بالفتوى الشرعية غير المستقرة , وبذلك ستولد مشكلة التضاد بين العرف والدين وهي المشكلة التي تخلص منها مجتمعنا السعودي منذ زمن واليوم يراد له أن يعود إليها ليكون نسخة مقلدة من مجتمعات عربية وإسلامية قريبة لم تنعم يوما من الدهر بما نعمنا به من توافق مذهل بين العرف والفتوى.
د. محمد بن إبراهيم السعيدي
http://lojainiat2.3utilities.com/index.cfm?do=cms.con&*******id=40877
¥