وانظر فتاوى أخرى في جوابي السؤالين (20100) و (95781).
ثالثاً:
أما ما استدل به صاحبك من الآيات: فلا يسلم له؛ لأن معنى الآيات يختلف عما استدل به من منع أخذ الأجرة على تعليم القرآن، والحديث، وغيرهما من العلوم الشرعية، ونحن لا ننكر أنه قد قال بعض أهل العلم بالمنع من أخذ الأجرة على تعليم القرآن والعلوم الشرعية استدلالاً بهذه الآيات ومثيلاتها، لكننا لا نسلم لهم بذلك الاستدلال، وبيان ذلك:
1. أما قوله تعالى: (وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) البقرة/ 41: فإن الثمن هنا هو إرضاء العامة، وليس أخذ الأجرة على تعليمها.
قال الطاهر بن عاشور رحمه الله:
"وقوله: (لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) البقرة/79: هو كقوله: (وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً) البقرة/41، والثمن المقصود هنا هو: إرضاء العامة، بأن غيّروا لهم أحكام الدين على ما يوافق أهواءهم، أو انتحال العلم لأنفسهم مع أنهم جاهلون، فوضعوا كتباً تافهة من القصص، والمعلومات البسيطة ليتفيهقوا بها في المجامع؛ لأنهم لما لم تصل عقولهم إلى العلم الصحيح، وكانوا قد طمعوا في التصدر والرئاسة الكاذبة: لفقوا نتفاً سطحية، وجمعوا موضوعات، وفراغات لا تثبت على محك العلم الصحيح، ثم أشاعوها، ونسبوها إلى الله، ودينه، وهذه شنشنة الجهلة، المتطلعين إلى الرئاسة عن غير أهلية، ليظهروا في صور العلماء لدى أنظار العامة، ومن لا يميز بين الشحم والورَم" انتهى.
" التحرير والتنوير " (1/ 577).
وقال القرطبي رحمه الله:
"وقد اختلف العلماء في أخذ الأجرة على تعليم القرآن، والعلم؛ لهذه الآية، وما كان في معناها، فمنع ذلك الزهري، وأصحاب الرأي [الأحناف]، وقالوا: لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن؛ لأن تعليمه واجب من الواجبات التي يحتاج فيها إلى نية التقرب والإخلاص، فلا يؤخذ عليها أجرة، كالصلاة، والصيام، وقد قال تعالى: (وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً). وأجاز أخذ الأجرة على تعليم القرآن: مالك، والشافعي، وأحمد، وأبو ثور، وأكثر العلماء؛ لقوله عليه السلام في حديث ابن عباس حديث الرقية: (إِنَّ أحقَّ مَا أَخَذْتُم عَلَيْهِ أَجْراً كِتَابُ الله) أخرجه البخاري، وهو نص يرفع الخلاف، فينبغي أن يعوَّل عليه.
وأما ما احتج به المخالف من القياس على الصلاة، والصيام: ففاسد؛ لأنه في مقابلة النص، ثم إن بينهما فرقاناً، وهو أن الصلاة والصوم عبادات مختصة بالفاعل، وتعليم القرآن عبادة متعدية لغير المعلِّم، فتجوز الأجرة على محاولته النقل، كتعليم كتابة القرآن.
وأما الجواب عن الآية: فالمراد بها: بنو إسرائيل، وشرع من قبلنا هل هو شرع لنا؟، فيه خلاف، وهو لا يقول به [يعني: أبا حنيفة رحمه الله].
جواب ثان: وهو أن تكون الآية فيمن تعين عليه التعليم، فأبى حتى يأخذ عليه أجراً، فأما إذا لم يتعين: فيجوز له أخذ الأجرة، بدليل السنَّة في ذلك، وقد يتعين عليه إلا أنه ليس عنده ما ينفقه على نفسه، ولا على عياله، فلا يجب عليه التعليم، وله أن يُقبل على صنعته، وحرفته، ويجب على الإمام أن يعيِّن لإقامة الدين إعانته، وإلا فعلى المسلمين؛ لأن الصدِّيق رضي الله عنه لمَّا ولي الخلافة وعُيِّن لها: لم يكن عنده ما يقيم به أهله، فأخذ ثياباً وخرج إلى السوق فقيل له في ذلك، فقال: ومن أين أنفق على عيالي؟ فردوه، وفرضوا له كفايته.
وأما الأحاديث [يعني التي تمنع ذلك]: فليس شيء منها يقوم على ساق، ولا يصح منها شيء عند أهل العلم بالنقل، - وشرع في نقدها -.
وليس في الباب حديث يجب العمل به من جهة النقل" انتهى باختصار.
" تفسير القرطبي " (1/ 335، 336).
¥