والقول بجواز قراءة الجنب للقرآن مطلقا رجحه طائفة من المحققين. وهو مذهب داود والطبري , ورجحه ابن حزم وابن المنذر , كما في الأوسط , وروى هذا القول عن مالك وهو ظاهر تبويب البخاري في صحيحه. فإنه قال:» باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت «وقال إبراهيم: لا بأس أن تقرأ الآية، ولم ير ابن عباس بالقراءة للجنب بأسا، وكان النبي r
يذكر الله في كل أحيانه. وقالت أم عطية: كنا نؤمر أن نخرج الحيض فيكبرون بتكبيرهم ويدعون.
وقال ابن عباس: أخبرني أبو سفيان أن هرقل دعا بكتاب النبي r فقرأ فإذا فيه " بسم الله الرحمن الرحيم. ويا أهل الكتاب تعالوا إلى "
الآية.
وقال عطا عن جابر t : حاضت عائشة رضي الله عنها فنسكت المناسك غير الطواف بالبيت ولا تصلي.
وقال الحكم: إني لأذبح وأنا جنب. وقال الله تعالى:] ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه [.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله في الفتح مبيناً مراد البخاري من هذه الترجمة:» والأحسن ما قاله ابن رشيد تبعاً لابن بطال وغيره «ـ إن مراده الاستدلال على جواز قراءة الحائض والجنب بحديث عائشة رضي الله عنها لأنه r لم يستثن من جميع منا سك الحج إلا الطواف , وإنما استثناه لكونه صلاة مخصوصة. وأعمال الحج مشتملة على ذكر وتلبية ودعاء ولم تمنع الحائض من شيء من ذلك , فكذلك الجنب ,لأن حدثها أغلظ من حدثه.
ومنع القراءة إن كان لكونه ذكرا الله فلا فرق بينه وبين ما ذكر , ,إن كان تعبدا فيحتاج إلى دليل خاص. ولم يصح عند المنصف شيء من الأحاديث الواردة في ذلك , وإن كان مجموع ما ورد في ذلك تقوم به الحجة عند غيره ولكن أكثرها قابل للتأويل كما سنشير إليه. ولهذا تمسك البخاري ومن قال بالجواز غيره كالطبري وابن المنذر وداود ,بعموم حديث:» كان يذكر الله على كل أحيانه «لأن الذكر أعم من أن يكون بالقرآن أو بغيره. وإنما فرق بين الذكر والتلاوة بالعرف ...
أقول: وما قرره الحافظ رحمه الله هنا في مراد البخاري هو الظاهر لمن أمعن في صنيع البخاري في كثير من تراجمه , وقول النبي r لعائشة رضي الله عنها: " افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري ". فيه دلالة ظاهرة على جواز قراءة الحائض للقرآن لأن من شأن الحاج قراءة القرآن , ولم يرد في منع الحائض من قراءة القرآن شيء صحيح و فيؤخذ بعموم الخبر المتقدم حتى يرد ما يخصصه من صحيح الأخبار.
1 - كما أن قول عائشة رضي الله عنها والحديث مخرج في صحيح مسلم من طريق البهي عن عروة عن عائشة ـ قالت: "كان النبي r يذكر الله على كل أحيانه " , فيه دلالة على أن النبي r لا يحجزه شيء عن قراءة القرآن , لا جنابة ولا غيرها , لأن كلمة أحيان «نكرة أضيفت إلى معرفة فتفيد العموم , كما ذكر ذلك جماعة من أهل الأصول. وقد قال صاحب مراقي السعود في باب العام ذاكرا ما يفيد العموم:
وما معرفا بأل قد وجدا أو بإضافة إلى معرف
إذا تحقق الخصوص قد نفى
والعام يجب الأخذ به حتى يرد ما يخصصه , فإن كان ثم مخصص عن الشارع , وإلا فيستصحب عموم النص. والأحاديث المرفوعة في منع الجنب من قراءة القرآن كلها معلولة كما تقدم بيان ذلك. فلذلك لا تصلح لتخصيص حديث: " كان رسول الله r يذكر الله على كل أحيانه ". وقول الصحابي لا يخصص المرفوع. فلذلك لا يصح أن يقال إن قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب t وقول علي بن أبي طالب t يخصصان حديث عائشة.
وهذا لو لم يوجد لهما مخالف , فكيف وقد خالفهما ابن عباس وجوز ما منعاه. وأما لم يكن في الباب شيء من المرفوع يدل على الجواز , ولم يوجد مخالف لعمر وعلي لوجب الأخذ بقولهما ,
وعلى ذلك تدل الأحاديث الصحاح , وقد سبق ذكر بعضها والله أعلم.
2 - ويحتج .. أيضا لمن جوز قراءة القرآن للجنب بحديث ابن عمر في الصحيحين قال: سمعت النبي r يقول: " لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار , ورجل آتاه الله ما لا فهو ينفق آناء الليل وآناء النهار ".قوله» آناء الليل وآناء النهار «فيه دلالة على عدم منع الجنب من قراءة القرآن لأن النبي r مدحه بالقيام به آناء الليل وآناء النهار , ولم يستثن r حالة من حالة أو وقتا من وقت مع احتمال كونه جنبا.
¥