1_ بعد هجرة النبي للمدينة أو لأمر فعله هو ترسيخ وتثبيت الدعائم الأمنية الأخوية بين المهاجرين والأنصار بما عرف في التاريخ السياسي" بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار" إنها ربط عقود الأمن الداخلي في أبهى صور الإنسانية وهي الأخوية , فتوطد الأمن الداخلي, مع توفير الكفاية لهؤلاء المهاجرين الذين تركوا جنات وعيون, وزروع ومقام كريم في البلد الأمين، فكان الأنصاري يقتسم داره وماله مع أخية المهاجريّ.
2_ كتابته صحيفة المدينة وهي الميثاق الغليظ بين مسلمي أهل المدينة وأهل الكتاب من اليهود الذين كانوا أعظم متاع وأمنع حصوناً من المسلمين بين الحرتين, فتفطّن النبي الأمي لهذه القوة التي تقطن بجوارهم فأقام عهداً وميثاقاً يحتوي بنود عدة يمكن أن توازي المواثيق الدولية الآنية في الترتيب وحسن المنطق والتدبير بها فقد جاء في الفقرة 47 من صحيفة المدينة" أن من خرج آمن ومن قعد آمن لا يسري على قريش أو من نصرها" فحقق لهم الآمن على نفوسهم وأموالهم فطمأنت أفئدتهم, كما كتب بينهم التناصر على من حارب أهل المدينة أو أرادهم بسوء, وكاتبهم على الزروع وما يملكون من الثمار بعدل نبوي فريد كما في خيبر, وهذا يرد في طريقة المنهج النبوي مع الأرض المفتوحة عنوة , كفتح مكة وخيبر وكل هذا مبحوث في بعض الدراسات في مبحث الأمن والتنمية في السياسة الشرعية.
3_ النصوص القرآنية, والأحاديث النبوية الكثيرة التي تنهى عن التخويف حتى مع العدو غير المحارب , وتأمر بإيتاء الزكاة, وإنفاق الأموال تحقيقاً لمقصدي الأمن والكفاية, لاسيما أن هذه النصوص أتت لمجتمع قبلي جاهلي سادت في الفوضى, وانسلخ من القلوب معنى الآمان, كما أنهم عاشوا في صحراء قد كفت رزقها وغار في الأرض خيرها، فكانت تلك النصوص مخالفة لما اعتاد عليه الناس _وكانوا في شدة منه_ فلاقت قبولاً وحاجة في النفوس تعبت من تحصيل المطلب منها.
4_ وعلى المستوى الخارجي ولتحقيق مقصد الأمن لهذه الدولة الوليدة التي كان يُنظر لها بعين الازدراء والاحتقار, لاسيما من كفار قريش؛لخروجها طريدة وحيدة لا عدة لها ولا متاع، فكانت غزوة بدر الكبرى والمسلمين لمّا بعد لم ينفضوا عن أنفسهم وعثاء السفر, وترك المال والولد, وما ذاك إلا لتحقيق المنعة والهيبة الخارجية لهذه الأمة الناشئة , فيخشى أعدائها سطوته بدل أن يُخشى عليها سطوتهم.
5_ حذاقة السياسة الشرعية التي عُلمها المصطفى _صلى الله عليه وسلم_ في استقصاء البحث والتنقيب في أرض المدينة التي يراد إرساء قواعد الحكم بها من حيث النظر للجماعات الإقليمية والفكرية والعقائدية البارزة في المجتمع المدني ,فكما كان المنهج مع اليهود صارماً قوياً يناسب ما عُرف عنهم من المكر والخداع, ناسب أن يكون التعامل مع الطوائف الآخرى التي تختلط مع المسلمين أقل صرامة وأكثر حكمة كما فعل مع المنافقين الذين يعدون في نظر غيرهم من أصحاب النبي_ صلى الله عليه وسلم_ ,فمع علمه بهم لم يسمهم بأسمائهم لأصحابه_رضوان الله عليهم أجمعين_ واستفاد منهم في رد كيد العدو في الغزوات والمعارك فكانوا يخرجون تحت رايته, وهذه هي أعظم الخيوط السياسة حساسية ,فإخفاء هويتهم الحقيقة عن عامة الناس درء للانشقاق الذي قد يصيب هذه الدولة, فيضطرب الأمن فيها ,فيكون الانقسام والتحزب الذي هو أساس الفرقة والسقوط بعد ذلك, فاستغل إمكانياتهم, ووجاهتم عند العرب في استمالتهم.
ومما سبق يتبين أن أهم المسؤوليات الملاقاة على عاتق السياسة في حدود السياسة الشرعية للشعوب والمجتمعات إرساء قاعدتي الأمن والكفاية , والضرب بيد من حديد على كل من يحاول تقويض دعائمهما وأركانهما, وإذا توطد هذا المقصدان يمكن للفرد أن ينتج وللجماعة أن تنشط , وللأمة أن تتنتهض ويقال أن السياسة استوعبت المعنى السياسي الشرعي المنوط بها.
فصل الإمام الجويني _رحمه الله _ما يجب على الأئمة الولاة بما يحقق العدل والإعمال فقال:" قيض الله السلاطين وأولوا الأمر وازعين؛ليوفروا الحقوق على مستحقيها, ويبلغوا الحظوظ ذويها, ويكفوا المعتدين, ويعضدوا المقتصدين, ويشيدوا مباني الرشاد, ويحسموا معاني الغي والفساد, فتنتظم أمور الدنيا, ويستمد منها الدين الذي إليه المنتهى"
¥