قوله: (والملك) أي: ملك الخلائق وتدبيرها لك وحدك، وهو بالرفع مبتدأ، وبالنصب على المشهور عطفاً على (إن)، والخبر محذوف، تقديره: لك.
وقوله: (لا شريك لك) أي: لا شريك لك فيما ذكر من استحقاق الثناء، وإيصال النعمة. قال تعالى: {{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}} [النحل: 53].
وفي هذا دليل على مشروعية التلبية، وفيها التنبيه على إكرام الله تعالى لعباده بأن وفودهم على بيته إنما كان باستدعاء منه عزّ وجل، والتلبية تتضمن المحبة؛ لأنك لا تقول: (لبيك) إلا لمن تحبه وتعظمه، كما تتضمن التلبية التزام دوام العبودية، والخضوع، والذل، والإخلاص، كما أنها تتضمن الإقرار بسمع الربِّ؛ إذ يستحيل أن يقول الرجل: (لبيك) لمن لا يسمع دعاءه والتلبية جعلت في الإحرام شعار للانتقال من حال إلى حال، ومن منسك إلى منسك، فهي كالتكبير جعل في الصلاة للانتقال من ركن إلى ركن [(597)].
وقال جابر رضي الله عنه: (ولزم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلبيته)، وهذا يدل على أن الأفضل الاكتفاء بتلبيته صلّى الله عليه وسلّم لملازمته لها، مع أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يسمع الناس يزيدون، فأقرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كما قال جابر رضي الله عنه، وهذا يدل على جواز الزيادة على التلبية النبوية.
الوجه التاسع: قوله: (حتى إذا أتينا البيت استلم الركن) الاستلام: افتعال من السلام، وهو التحية، أو من السِّلام ـ بكسر السين ـ وهي الحجارة، قال الجوهري: (استلم الحجر: لمسه بالقُبلة أو باليد) [(598)]. وقال ابن تيمية: (الاستلام: هو مسحه باليد) [(599)]، والمراد بالركن: الحجر الأسود؛ لأنه المراد عند الإطلاق، وسمي ركناً؛ لأنه في ركن الكعبة.
فهذا فيه مشروعية استلام الحجر الأسود قبل بدء الطواف إن تيسر وإلا بدأ بالطواف وتركه.
الوجه العاشر: قوله: (فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً) أي: طاف بالبيت فرمل ثلاثة أشواط ومشى الأربعة الباقية، وهذا الطواف هو طواف القدوم، والرمل ـ بالفتح ـ: الإسراع في المشي من غير مباعدة للخطوات ولا وثب.
وهذا فيه دليل على مشروعية الرَّمَلِ في الأشواط الثلاثة الأُول من طواف القدوم، وهو أول طواف يأتي به القادم إلى مكة، سواء أكان لحج أم لعمرة، وأما الأربعة الباقية فيمشي فيها.
فإن نسي الرمل لم يقضه في الأربعة الباقية، لئلا يغير هيئتها. فإن لم يستطع الرمل مع القرب؛ لقوة الزحام، فمن أهل العلم من قال: يخرج إلى حاشية المطاف؛ لأن المحافظة على فضيلة تتعلق بنفس العبادة أولى من المحافظة على فضيلة تتعلق بمكان العبادة أو زمانها، ومنهم من قال: يطوف قريباً على حسب حاله؛ لأن الرمل هيئة، فهو كالتجافي في الركوع والسجود، ولا يترك الصف الأول لأجل تعذرها، فكذا هنا [(600)].
الوجه الحادي عشر: قوله: (ثم أتى مقام إبراهيم فصلى) وفي «صحيح مسلم»: (فجعل المقام بينه وبين البيت)، ومقام إبراهيم: حجر كان إبراهيم عليه السلام يقوم عليه وهو يبني الكعبة حين ارتفع البناء، وهذا هو الصواب من عدة أقوال، لما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما في قصة بناء إبراهيم عليه السلام البيت، وفيه: (فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر، فوضعه له، فقام عليه، وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ... ) الحديث [(601)].
وقد روى جابر رضي الله عنه: أنه صلّى الله عليه وسلّم قرأ: {{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً}} [البقرة: 125]، وفي رواية للنسائي: (ورفع صوته، يُسمع الناس) [(602)]، فصلى ركعتين قرأ فيهما: {{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *}}، و {{قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ *}} [(603)]، وفي رواية: {{قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ *}}، و {{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *}} [(604)].
وفي هذا دليل على أن السُّنَّة في ركعتي الطواف كونهما خلف المقام، فإن تيسر القرب منه فهو أفضل، فإن وجد زحاماً صلى بعيداً عن المقام، وتحصل السنة بذلك إذا جعله بينه وبين الكعبة، وإن صلاهما في أي مكان أجزأ.
¥