والركعتان حكمهما الوجوب على قول أبي حنيفة، والشافعي في أحد قوليه، والمشهور من مذهب المالكية، ورواية عن أحمد [(605)] لظاهر الأمر في قوله تعالى: {{وَاتَّخِذُوا}}، ولأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم تلا الآية عند المقام.
والقول الثاني: أنهما سنة، وهو الأصح في مذهب أحمد، وقول مالك في إحدى الروايتين عنه، والأصح في مذهب الشافعي [(606)]؛ لأن ما عدا الصلوات الخمس ليس بواجب، وإنما هي تَطَوُّع، كما في حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه: أن أعرابياً قال: يَا رَسُولَ اللهِ، مَاذَا فَرَض الله عَلَى عِبَادِهِ مِنَ الصَّلاةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي اليَومِ وَاللَّيلَةِ»، فَقَالَ: هَل عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: «لا إِلا أَنْ تَطَّوَّعَ» [(607)].
وعلى القول بأنهما سنّة، فإن صلَّى فريضة بعد الطواف أجزأت عنهما [(608)]. وهذا قول ابن عباس [(609)] وابن عمر رضي الله عنهما، ومجاهد وطاوس وعطاء وغيرهم [(610)]، ولأنهما ركعتان شرعتا للنسك، فأجزأت عنهما المكتوبة، كركعتي الإحرام [(611)]. وأما على القول بوجوبهما فإنه لا يجزئ عنهما غيرهما؛ لأن الفريضة لا تجزئ عن الواجب، فإذا صلى المكتوبة صلى ركعتي الطواف بعدها. وقد ذكر البخاري تعليقاً عن نافع أنه قال: (كان ابن عمر رضي الله عنهما يصلي لكل سبوعٍ ركعتين)، وقال إسماعيل بن أمية: قلت للزهري: إن عطاء يقول: تجزئه المكتوبة من ركعتي الطواف، فقال: السنة أفضل، لم يطف النبي صلّى الله عليه وسلّم أسبوعاً قط إلا صلى ركعتين [(612)].
والقول بالإجزاء قوي، لكن الأفضل عدم الاقتصار على الفريضة؛ لأن ركعتي الطواف عبادة مستقلة شرعت من أجل الطواف فالأولى الإتيان بهما، ويؤيد ذلك عموم ما تقدم. قال الزركشي: (المنصوص عن أحمد الإجزاء، مع أن الأفضل عنده فعلهما) [(613)].
الوجه الثاني عشر: قوله: (ثم رجع إلى الركن فاستلمه)، فيه دليل على مشروعية استلام الحجر الأسود، بعد ركعتي الطواف، وقبل السعي إن تيسر وإلا تركه، وظاهر ذلك أنه لا يسن تقبيله ولا الإشارة إليه.
الوجه الثالث عشر: قوله: (ثم خرج من الباب إلى الصفا) المراد بالباب: باب الصفا، كما ورد في رواية للطبراني: (ثم خرج من باب الصفا) [(614)]، وهذا فيه مشروعية الخروج إلى الصفا من بابه، وكان المسجد الحرام في الزمن القديم له أبواب دون المسعى يخرج منها الناس، وأما الآن فيتجه إلى المسعى من جهة الصفا، وهذا فيه دليل على أنه ينبغي المبادرة بالسعي بعد الطواف، ولو أخَّر السعي فلا بأس، فإن الموالاة بين الطواف والسعي غير واجبة.
الوجه الرابع عشر: قوله: (فلما دنا من الصفا قرأ: {{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}}) الصفا: جمع مفرده صفاة، وهي الصخرة الصلبة الملساء، والمراد هنا: أسفل الجبل المعروف في أول المسعى. والمروة: الحجر الأبيض البَرَّاق الذي تقدح منه النار، والمراد هنا: أسفل الجبل المعروف في نهاية المسعى، ومعنى {{مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}}: من أعلام دينه وأماكن عبادته، المأمور بها في الحج، كالوقوف والرمي والطواف، سميت شعائر لما تُشعر به من أعمال الحج، أو لما يُستشعر هناك من تعظيم الله تعالى والقيام بوظائفه.
وقد استحب بعض العلماء قراءة هذه الآية عند الدنو من الصفا، ويفهم من صنيع آخرين أنه لا يستحب قراءتها، ولذا لم يذكرها أكثر الفقهاء في هذا الموطن [(615)]، وهذا أقرب؛ لأن الظاهر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قرأها من أجل تعليم الناس، كما قرأ آية: {{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً}} عندما أراد صلاة ركعتي الطواف، فمن قال بقراءة الآية عند المسعى، لزمه أن يقول بقراءة الآية عند المقام، وظاهر رواية النسائي المتقدمة أن المقصود تعليم الناس.
الوجه الخامس عشر: قوله: (أبدأ بما بدأ الله به)، هذه رواية مسلم بلفظ الخبر (أبدأ)، وقد جاء عند النسائي بلفظ: (ابدؤوا بما بدأ الله به) بلفظ الأمر، ولكنها رواية شاذة [(616)].
وقد استدل الفقهاء بهذا على أن الترتيب شرط في السعي، وهو أن يبدأ بالصفا، فإن بدأ بالمروة لم يعتدَّ بذلك الشوط، فإذا صار على الصفا اعتدَّ بما يأتي به بعد ذلك [(617)].
¥