وعلى الإنسان أن يحرص على العمل بهذه السنن، ولا تأخذه العجلة فيترك الدعاء والذكر، ويقول في سعيه ما أحب من ذكر، ودعاء، وتلاوة القرآن، وينبغي للإنسان ـ وهو يسعى ـ أن يستشعر أنه في ضرورة إلى رحمة الله عزّ وجل، كما كانت أم إسماعيل رضي الله عنها في ضرورة إلى رحمة الله عزّ وجل، ومعنى ذلك أن المسلم يفزع إلى الله تعالى، ويستغيث به من آثار الذنوب وعواقبها، وذلك بالإلحاح في الدعاء، وصدق الالتجاء إلى الله تعالى.
وليس للسعي ـ كالطواف ـ دعاء معين، وأما تخصيص كل شوط بدعاء معين، فهذا لا أصل له، وإن دعا بين العلمين بقوله: (ربّ اغفر وارحم، إنك أنت الأعز الأكرم) فحسن، لثبوت ذلك عن ابن عباس وابن عمر [(622)] رضي الله عنهم.
وقوله: (فذكر الحديث) هنا اختصار، فإن الحافظ حذف ما يتعلق بالأمر بفسخ الحج إلى العمرة، حيث أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم الصحابة رضي الله عنهم الذين ليس معهم هدي بالتحلل بعمرة بعد ما أتموا السعي، وقد تقدم الكلام على شيء من ذلك.
الوجه العشرون: قوله: (فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى ... ) في «صحيح مسلم»: (فأهلوا بالحج)، وعلى هذا فمعنى (توجهوا): قصدوا وتهيأوا للرحيل من الأبطح، لا أنهم توجهوا بمشيهم إلى منى، فأحرموا منها، للإجماع على أنهم أحرموا في مكة [(623)]. ويوم التروية: هو اليوم الثامن من ذي الحجة، سمي بذلك لأنهم كانوا يرتوون من الماء لما بعده، أي: يسقون ويستقون.
وكان صلّى الله عليه وسلّم قد أقام بالأبطح حتى صبح اليوم الثامن، والأبطح: هو مسيل فيه دقاق الحصى، يقع شرقي مكة، فأحرم النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذا المكان ومعه أصحابه قبل الزوال، ثم توجهوا إلى منى، وكان ذلك يوم الخميس.
والسنّة أن يحرم الحاج من المكان الذي هو فيه، سواء أكان في الأبطح أم في منى، والمكي إذا أراد الحج يُحرم من أهله.
وأما قول البهوتي شارح «الزاد»: (والأفضل من تحت الميزاب) [(624)]، أي: ميزاب الكعبة الذي يصب في الحِجْرِ، فهذا اجتهاد منه، وهو مخالف للسنة، فإنه لم ينقل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أحرم من تحت الميزاب ولا أحد من أصحابه رضي الله عنهم.
الوجه الحادي والعشرون: قوله: (وركب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر)، أي: صلى كل صلاة في وقتها قصراً من غير جمع، وإنما ذكر جابر رضي الله عنه عدد هذه الصلوات الخمس هنا ليعلم الوقت الذي وصل فيه إلى منى، والوقت الذي خرج فيه منها إلى عرفة، والخروج إليها ومنها على هذه الصفة استحبه العلماء، استحبوا البيات في منى، وألا يخرج منها الحاج حتى تطلع شمس اليوم التاسع.
الوجه الثاني والعشرون: قوله: (حتى طلعت الشمس فأجاز حتى أتى عرفة) عرفة: مشعر خارج حدود الحرم؛ لأنها واقعة في الحل، وهي اسم لمكان الوقوف في الحج، سميت عرفة لارتفاعها على ما حولها، ويقال: عرفات، كما في القرآن.
وقوله: (فأجاز) يقال: جاز المكان: سار فيه، وأجازه؛ قطعه، والمعنى: جاوز المزدلفة ولم يقف بها؛ بل توجه إلى عرفات. وهذا فيه دليل على أنه يسن للحاج أن يبيت ليلة التاسع في منى إن تيسر، أما البيات قصداً في عرفة ليلة التاسع فهذا خلاف السنة.
الوجه الثالث والعشرون: قوله: (فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها) نَمِرَةُ: بفتح النون وكسر الميم، جبال صغار هي منتهى حد الحرم من الجهة الشرقية، فهي محاذية لأنصاب الحرم، ووادي عرنة يفصل بينها وبين عرفة. والقبة: خيمة صغيرة.
وظاهر السياق يشعر بأن نمرة في عرفة، وبذلك قال بعض الفقهاء وعلماء اللغة.
والقول الثاني: أن نمرة ليست من عرفة، وبه جزم النووي، وابن تيمية، وابن القيم، وآخرون [(625)]، ويترتب على هذا الخلاف حكم حَجِّ من وقف بنمرة إلى الغروب ثم دفع إلى مزدلفة [(626)].
وعلى القول بأنها ليست من عرفة يكون معنى قوله: (حتى أتى عرفة) قارَبَ عرفة، أو أن مراد جابر أن منتهى سيره عرفة، وأنه لم يفعل كما تفعل قريش في الجاهلية، فتنتهي بمزدلفة وتقف فيه يوم عرفة.
وهذا القدر فيه فائدتان:
الأولى: جواز الاستظلال بما ليس ملاصقاً للرأس، كالشمسية، والخيمة، وسقف السيارة، ونحوها.
¥