الثانية: استحباب الجلوس في نمرة إلى زوال الشمس إن تيسر ـ على أحد القولين ـ بناءً على أن الأصل التعبد في جميع أفعال الحج، إلا ما قام الدليل على أنه ليس كذلك، وإلا ذهب إلى عرفات واستقر بها ولو قبل الزوال.
الوجه الرابع والعشرون: قوله: (حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء، فرحلت له، فأتى بطن الوادي ... )، المراد بالوادي: وادي عرنة الذي فيه مقدمة المسجد؛ لأن المسجد بعضه في عرفة وبعضه خارج عرفة، وبطن الوادي موضع متسع، ولذا خصَّه النبي صلّى الله عليه وسلّم بخطبته، ولم يكن في هذا الموضع مسجد، وإنما بني في أول دولة بني العباس [(627)].
وهذا فيه بيان ما يفعله الإمام في عرفة، وهو أن يخطب الناس خطبة واحدة، يعلمهم ما يحتاجون إليه من مسائل العقيدة وأحكام دينهم، ويحثهم على الاجتماع والائتلاف، ويحذرهم التفرق والاختلاف، ويبين لهم مكائد الأعداء ودسائس المتربصين، والمقصود أن الخطبة يراعى فيها ما يناسب الزمان، إضافة إلى ما تقدم.
وليست خطبة النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم عرفة خطبة جمعة، وإنما هي خطبة تعليم، ولذا خطب قبل الأذان ولم يجهر بالقراءة، فدل على أنه لم يصلِّ جمعة، وقد ذكر جابر خطبة النبي صلّى الله عليه وسلّم في عرفة.
الوجه الخامس والعشرون: قوله: (ثم أذن ثم أقام، فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر) هذا فيه دليل على أن الخطبة قبل الصلاة، وعلى أن الأذان بعد الخطبة، ثم يصلي الإمام بالناس الظهر والعصر جمعاً وقصراً، بأذان واحد وإقامتين. وهكذا يفعل الناس في سائر أنحاء عرفة، لا فرق في ذلك بين أهل مكة وغيرهم، وهذا الجمع قيل: إنه لأجل النسك، وقيل: لأجل السفر، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والصحيح أنه لم يجمع بعرفة لمجرد السفر، كما قصر للسفر، بل لاشتغاله بالوقوف واتصاله عن النزول، ولاشتغاله بالمسير إلى مزدلفة، فكان جمع عرفة لأجل العبادة، وجمع مزدلفة لاجل السير الذي جدَّ فيه: وهو سير إلى مزدلفة ... ) [(628)].
الوجه السادس والعشرون: قوله: (ثم ركب حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات ... )، أي: ثم ركب من مكان خطبته وصلاته حتى أتى الموقف، وهو عند الجبل المعروف في شمال عرفة، ويسمى جبل (إلال) بوزن هلال، وتسميه العامة: جبل الرحمة [(629)].
والظاهر أنه صلّى الله عليه وسلّم وقف عند الجبل من جهته الجنوبية، فيكون الجبل عن يمينه، ويستقبل القبلة، ويكون حبل المشاة أمامه، وحبل المشاة ـ بالحاء المهملة ـ: هو صفهم ومجتمعهم في مشيهم. وقيل: حبل المشاة: طريقهم الذي يسلكونه. والصخرات: هي صخرات مفترشة بالأرض، تقع خلف الجبل، والواقف عندها يستقبل الجبل والقبلة معاً.
وعرفة كلها موقف، لكن يجب على الواقف أن يتأكد من حدودها، وهي علامات يجدها من يطلبها؛ لأنها واضحة، ومن وقف خارجها لم يصح حجه؛ لأن الحج عرفة، كما تقدم.
الوجه السابع والعشرون: قوله: (واستقبل القبلة)، فيه بيان أن الواقف بعرفة يستقبل القبلة؛ لأن الموقف موقف ذكر ودعاء، وعلى الحاج أن يستفيد من عشية هذا اليوم، فيكثر من الدعاء والاستغفار، متضرعاً مقبلاً مظهراً الضعف والافتقار، وقد ذكر الفقهاء أن وقوفه راكباً أفضل، لفعله صلّى الله عليه وسلّم، ولأنه أعون على الدعاء، وهذا الإطلاق فيه نظر.
والذي يظهر ـ والله أعلم ـ أن الأفضل يختلف باختلاف أحوال الناس، فإن كان ممن إذا ركب رآه الناس لحاجتهم إليه، أو كان يشق عليه ترك الركوب وقف راكباً، وإن كان جلوسه على الأرض أخشع له، وأحضر لقلبه جلس؛ لأن مراعاة الكمال الذاتي للعبادة أولى من مراعاة الكمال في المكان [(630)].
الوجه الثامن والعشرون: قوله: (فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس ... ) هذا فيه بيان وقت الانصراف من عرفة وكيفيته، فوقته بعد غروب الشمس. والصفرة: لون دون لون الحمرة، وهو شعاع الشمس بعد مغيبها، وقوله: (حتى غاب القرص) بيان لقوله: (غربت الشمس)؛ لأن هذا يطلق مجازاً على مغيب معظم القرص، فأزال الاحتمال بقوله: (حتى غاب القرص)، وهذا فيه دليل على مشروعية الوقوف بعرفة إلى غروب الشمس وتحقق كمال غروبها، وسيأتي الكلام على هذه المسألة ـ إن شاء الله ـ عند حديث عروة بن مضرس رضي الله عنه.
¥