ثم دفع إلى مزدلفة (وقد شنق للقصواء الزمام) أي: ضمَّ وضيَّق عليها الزمام، وذلك بالجذب، والزمام: بالكسر هو الخطام، وهو الخيط الذي يشد إلى الحلقة التي في أنف البعير ليقاد به ويمتنع به من الإسراع في المشي، وقد فسر ذلك بقوله: (حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله)، و (مورك رحله) بفتح الميم وكسر الراء وقيل بفتحها [(631)]، وهو الموضع الذي يجعل عليه الراكب رجله إذا ملَّ من الركوب.
وقوله: (السكينة السكينة) منصوب على الإغراء بفعل محذوف؛ أي: الزموا.
وقوله: (كلما أتى حبلاً ... ) في «صحيح مسلم» (من الحبال) وهو التل اللطيف من الرمل الضخم، والمعنى: أنه إذا أتى حبلاً من حبال الرمل أرخى لناقته قليلاً من أجل أن تصعد؛ لأن الناقة إذا شُدَّ زمامها شق عليها الصعود. وهذا فيه دليل على أنه ينبغي الدفع إلى مزدلفة بسكينة ووقار وخشوع وتكبير وتلبية، لئلا يضر الناس بعضهم بعضاً، وهذا يتأكد بالنسبة لسائقي السيارات، فإن عليهم السكينة والحرص على النظام ومراعاة خط السير، فإن وجد طريقاً مشى، وإلا انتظر حتى يمشي الذي أمامه، فهذا آمن له ولمن معه ولغيره من الحجاج.
الوجه التاسع والعشرون: قوله: (حتى أتى المزدلفة، فصلى بها ... ) المزدلفة: أحد المشاعر المقدسة، بين عرفة ومنى، سُميت بذلك لاقتراب الناس إلى منى بعد الإفاضة من عرفات واجتماعهم فيها، والازدلاف: الاجتماع والاقتراب [(632)]، وسيأتي بيان حدودها إن شاء الله، وهذا القدر من الحديث فيه بيان ما يفعله الحاج بعد وصوله المزدلفة، وهو كما يلي:
1 ـ مشروعية الجمع بين المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامة لكل صلاة، وذلك قبل حط الرحال أو عمل الطعام، سواء وصلوا إليها في وقت المغرب أم في وقت العشاء، وقد مضى في باب «الأذان» الكلام على مسألة الأذان والإقامة في مزدلفة، حيث ساق الحافظ هذا القدر من الحديث هناك.
2 ـ مشروعية ترك التنفل بين المجموعتين وإن كان الجمع تأخيراً، وكذا راتبة المغرب والعشاء، أما راتبة الفجر فلا تترك حضراً ولا سفراً، وكون جابر رضي الله عنه لم يذكرها، لا يدل على أنه صلّى الله عليه وسلّم تركها؛ لأن جابراً لم يذكر كل شيء فعله النبي صلّى الله عليه وسلّم في حجه؛ بل ترك أشياء.
3 ـ أنه لا يشرع إحياء ليلة المزدلفة بصلاة ولا دعاء؛ لظاهر قوله: (ثم اضطجع حتى طلع الفجر) لكن يستثنى من ذلك الوتر، فقد كان صلّى الله عليه وسلّم لا يدعه سفراً ولا حضراً، حتى كان يوتر على راحلته إذا جدَّ به السير، وأمر به أمته أمراً عاماً بدون استثناء، وعدم النقل ليس نقلاً للعدم. فإما أن يكون جابر رضي الله عنه سكت عن ذكره لأنه لا يدري، ولهذا لم ينفِ الوتر كما نفى التنفل في قوله: (ولم يسبح بينهما شيئاً)، أو أنه ترك ذكره للعلم به، ولأنه ليس من المناسك، والحديث في سياق المناسك، فالله أعلم.
وقد جاء عن بعض الصحابة رضي الله عنهم أنهم قاموا في هذه الليلة، كما ورد عن أسماء رضي الله عنها، وحديثها في «الصحيحين»، وسأذكره ـ إن شاء الله ـ عند الكلام على انصراف الضعفة من مزدلفة.
الوجه الثلاثون: قوله: (فصلى الفجر حين تبين الصبح ... )، هذا فيه دليل على أن السنة في صلاة الفجر في مزدلفة المبادرة بها في أول وقتها، لكن عليه أن يتأكد من دخول الوقت، ولا يغترَّ بأذان غيره ممن قد يؤذن قبل دخول الوقت، ولعل هذه المبادرة ليتسع وقت الذكر والدعاء بعد الصلاة.
الوجه الحادي والثلاثون: قوله: (ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام ... ) هذا فيه بيان ما يفعله في مزدلفة بعد الصلاة. والمشعر الحرام: من أسماء المزدلفة، وهو مكان أو جبيل في مزدلفة، وعليه المسجد الآن، ووصف بالحرام؛ لأنه داخل حدود الحرم.
فالسنة للحاج بعد صلاة الفجر أن يستقبل القبلة، يذكر الله تعالى بالتكبير والتهليل، ويدعو، كما قال تعالى: {{فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ}} [البقرة: 198]، وقد ذكر الفقهاء أنه يسن رفع اليدين في الدعاء [(633)]، ويستمر على ذلك حتى يسفر جدّاً.
وعلى المسلم أن يحذر من إضاعة هذه الدقائق الغالية، فيشتغل بأمور لا داعي لها، فتطلع الشمس وهو في مكانه لم يتحرك، أو يبادر بالانصراف بعد الصلاة فيفوِّت على نفسه خيراً كثيراً.
¥