رابعاً: أن قضية إحراق كتاب الإحياء كانت في أوائل سنة 503ه، وعلى أقل تقدير في أواخر سنة 502ه، ويومها - قطعاً - كان الغزالي في بلده (طوس) وابن تومرت لا يعرف عنه أنه تجاوز بغداد شرقاً في رحلته، فلم يدخل إقليم خراسان أصلاً، فأنى لهذه القصة أن تصح!
ولأجل هذه الأسباب وغيرها أنكر جماعة من الأئمة القصة ك: ابن الأثير، وابن خلدون، وابن الخطيب ... وغيرهم (3)، وكثير من الباحثين المعاصرين خلصوا إلى هذه النتيجة (4).
وعوداً على ما ذكرناه من نقد العلماء لكتاب الإحياء، نسوق جملة من فتاواهم ومقولاتهم عن (إحياء علوم الدين) فمن ذلك:
1 - ما كتبه عالم الإسكندرية أبو بكر محمد بن الوليد الطرطوشي المالكي (520 هـ) في رسالة له إلى ابن المظفر، فقال: (أما ما ذكرت من أمر الغزالي، فرأيت الرجل وكلمته، فوجدته رجلاً جليلاً من أهل العلم قد نهضت به فضائله، واجتمع فيه العقل والفهم وممارسة العلوم طول عمره، ثم بدا له الانصراف عن طريق العلماء، ودخل في غمار العمال، ثم تصوف فهجر العلوم وأهلها، ودخل في علوم الخواطر، وأرباب القلوب، ووساوس الشيطان، ثم شابها بآراء الفلاسفة ورموز الحلاج، وجعل يطعن على الفقهاء والمتكلمين، ولقد كاد ينسلخ من الدين، فلما عَمِل (الإحياء) عمد يتكلم في علوم الأحوال، ومرامز الصوفية، وكان غير دري بها ولا خبير بمعرفتها!! فسقط على أم رأسه، فلا في علماء المسلمين قر، ولا في أحوال الزاهدين استقر.
ثم شحن كتابه بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا أعلم كتاباً على وجه البسيطة - في مبلغ علمي - أكثر كذباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم منه.
سبكه بمذاهب الفلاسفة، ومعاني رسائل أخوان الصفا، وما مثل من قام لينصر دين الإسلام بمذاهب الفلاسفة، وآرائهم المنطقية، إلا كمن يغسل الماء بالبول.
ثم يسوق الكلام سوقاً، يرعد فيه ويبرق، يمني وشوق حتى إذا تشوفت له النفوس، قال: "هذا من علم المعاملة، وما وراءه من علم المكاشفة، ولا يجوز تسطيره في كتاب"، أو يقول: "هذا من سر القدر الذي نهينا عن إفشائه"!
وهذا فعل الباطنية، وأهل الدغل والدخل، وفيه تشويش للعقائد، وتوهين لما عليه كلمة الجماعة.
فإن كان الرجل يعتقد ما سطره في كتابه لم يبعد تكفيره، وإن كان لا يعتقده فما أقرب تضليله.
وأما ما ذكرت من إحراق الكتاب بالنار، فإنه إن ترك انتشر بين ظهور الناس، ومن لا معرفة له بسمومه القاتلة، وخيف عليهم أن يعتقدوا صحة ما سُطر فيه مما هو ضلال، فيحرق قياساً على ما أحرقته الصحابة رضي الله عنهم من صحائف المصحف التي كان فيها اختلاف ألفاظ، ونقص آيٍ.
وفي دونه من الكتب غنية وكفاية لإخواننا المسلمين، وطبقات الصالحين.
ومعظم من وقع في عشق هذا الكتاب رجال صالحون لا معرفة لهم بما يلزم العقل وأصول الديانات، ولا يفهمون الإلهيات، ومن كان كذلك لم يكن له أن يقفوا ما ليس له به علم، والسلام" (5).
2 - ومن ذلك أن الإمام أبا عبدالله محمد بن علي المازري الصقلي (536ه) كتب جواباً على سؤال ورده متكرراً في نواحي كثيرة من المشرق والمغرب يسألونه عن (إحياء علوم الدين) فذكر جواباً طويلاً جاء فيه: (ولقد عجبت من قوم مالكية يستحسنون من رجل فتاوى مبناها على ما لا حقيقة له، وفيه كثير من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم، لفق فيه الثابت بغير الثابت، وكذا ما أورده عن السلف لا يمكن ثبوته كله، وأورد من نزغات الأولياء! ونفثات الأصقياء ما يجل موقعه، لكن مزج فيه النافع بالضار، كإطلاقات يحكيها عن بعضهم لا يجوز إطلاقها لشناعتها، وإن أخذت معانيها على ظواهرها، كانت كالرموز إلى قدح الملحدين، ولا تنصرف معانيها إلى الحق إلا بتعسف على اللفظ .... الخ" (6).
3 - ومن ذلك ما قاله القاضي عياض اليحصبي (544ه): "والشيخ أبو حامد ذو الأنباء الشنيعة، والتصانيف العظيمة غلا في طريقة التصوف، وتجرد لنصر مذاهبهم، وصار داعيةً في ذلك، وألف فيه تواليفه المشهورة، أخذ عليه فيها مواضع، وساءت به ظنون الأمة، والله أعلم بسره، ونفذ أمر السلطان عندنا بالمغرب وفتوى الفقهاء بإحراقها والبعد عنها، فامتُثل ذلك" (7).
¥