مما لا يختلف فيه اثنان أن الإيمان بالقضاء والقدر جانب مهم من جوانب العقيدة الإسلامية، ولهذا الإيمان أثره الواضح في سلوك المرء وتصرفاته وفي موقفه من الوقائع والأحداث التي تفاجئ الإنسان في هذه الحياة، ويجب أن يقوم هذا الإيمان على المعنى الصحيح للقضاء والقدر، ولا يوجد ذلك المعنى الصحيح إلا في الوحي الإلهي المتمثل في القرآن الكريم والسنة المطهرة ولا يجوز بوجه من الوجوه الاستعاضة عن هذا المصدر ولا إشراك غيره معه كمصدر أصيل.
معنى القدر والقضاء وأيهما أسبق
اختلف أهل العلم أيهما أسبق على الآخر, القضاء أو القدر ..
والذي تطمئن إليه النفس وتؤيده الأدلة، هو قول أبي حاتم الرازي وغيره من بعض أهل العلم وخلاصته: أن القدر هو التقدير، وأن القضاء هو التفصيل، ومن الشواهد التي ذكرها أبو حاتم على ما ذهب إليه قوله تعالى:
{قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَان} ِ (يوسف: 41) , معناه: الفراغ, وقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْض} ِ (الجمعة: 10) أي فرغ منها، والقضاء والقدر بمنزلة الثوب الذي يقدره الخياط فهو قبل أن يفصله يقدر هو ويزيد وينقص, ويوسع ويضيق، وإذا فصله فقد قضاه وفاته, ولا يمكنه أن يزيد أو ينقص وذلك مثل القضاء والقدر, والله أعلم، وهناك تعريفات أخرى، وقد يعكس بعضهم فيقدم القضاء على القدر, والله أعلم.
وسواء كان هذا أو ذاك فإن الله تعالى سبق علمه بكل مخلوق وكتب مقاديره وأوجده وفق ما قدره له, وشاء ما يصدر عنه بعد وجوده من خير أو شر, ولا يخرج عن ذلك شيء لا أفعال الإنسان ولا غيرها، وكذلك ما يصيب الإنسان من الحوادث والكوارث, والعبد بجملته مخلوق جسمه وروحه وصفاته وأفعاله وأحواله فهو مخلوق خلق نشأة وصفة يتمكن بها من إحداث إرادته وأفعاله بتلك النشأة، بمشيئة الله وقدرته وتكوينه، فهو الذي خلقه وكوّنه كذلك، فتقع حركته بقدرة العبد المخلوقة، وإرادته التي جعلها الله فيه, فالله سبحانه إذا أراد فعل العبد خلق له القدرة والداعي إلى فعله, فيضاف الفعل إلى قدرة العبد إضافة المسبب إلى سببه، ويضاف إلى الله إضافة المخلوق إلى الخالق، فالمقدور واقع بقدرة العبد الحادثة وقوع المسبب بسببه، والسبب والمسبب والفاعل والآلة أثر قدرة الله [14] تعالى، فلا نعطل قدرة الله عن شمولها وكمالها وتناولها لكل ممكن، وليس في الوجود شيء مستقل بالتأثير سوى مشيئة الله وقدرته ولا نعطل قدرة العبد التي خلقها له وجعلها صالحة لمباشرة الأفعال.
هذه طريقة أهل السنة والجماعة في هذا الباب، وهي التي كان عليها سلف هذه الأمة وهي وسط بين طريقة الجبرية والقدرية كما ترى، وكما سيتضح قريباً إن شاء الله.
وهذه المسألة من أعوص المسائل الشرعية، كما يقول أبو الوليد، لما يظهر من التعارض بين الأدلة، مما أدى إلى تفرق الناس إلى ثلاث فرق، طرفين ووسط:
الطرف الأول: الجبرية .. وعلى رأسهم جهم بن صفوان، فقد ذهبت هذه الفرقة إلى أن العبد مجبور على عمله من خير وشر، وتنسب إليه الأعمال مجازاً كما تنسب إلى الجماد، والإنسان إنما يخالف الجماد في المظهر فقط، فكتب فلان (مثلا) وقرأ وقام وقعد، مجاز، كما يقال: ماج البحر وتحرك الجمل، وأثمرت الشجرة، والذي دفعهم إلى هذا فرارهم من الوقوع فيما وقعت فيه القدرية من القول: إن العبد يخلق أفعاله، كما سيأتي إن شاء الله.
والجبرية نظرت إلى العبد وهو منفعل فقالوا: إنه مجبور غير مختار، وفاتهم أنه منفعل وفاعل.
ما ينتج من هذا القول
يترتب على هذا المذهب إبطال التكليف والثواب والعقاب على الأعمال، كما ينتج منه أن إرسال الرسل وإنزال الكتب عبث، وهو مذهب باطل ومرفوض - كما ترى - عقلاً وشرعاً:
أما عقلاً: فإنه لا يستساغ أن يعطى العامل أجر عمل لم يعمله باختياره حقيقة، وإنما ينسب إليه مجازاً، هذا من حيث الثواب.
وأما العقاب فليس من العدل أن يعاقب العامل على خطيئة ارتكبها تحت الإجيار وبدون اختيار منه بل أتاه كمُكْرَهٍ، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فيصبح إنزال الترغيب والترهيب في الكتاب والسنة وإنذار الرسل كلاماً لا معنى له.
هذا ما يترتب على قول الجبرية بإيجاز.
الطرف الثاني: المعتزلة القدرية:
¥