ونرد عليهم: أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول عن نعيم الجنة: فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)، وكما قال ابن عباس: (ما عندكم في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء) أي: الاشتراك اللفظي فقط، فهذه جنة وهذه جنة، وهذا نهر وهذا نهر، وهذا خمر وهذا خمر، لا يعني أن جنة الدنيا كجنة الآخرة، ولا أن أنهارها كأنهارها، ولا أن خمرها كخمرها؛ لكن لما أراد الله سبحانه وتعالى أن يفهمنا ويُعْلمَنا بهذه الجنة، وكانت مما لا ندركه بحواسنا ولا بعقولنا، خاطبنا بأمر نعقله عن طريق التمثيل للتقريب.
وصفات الله سبحانه وتعالى أعظم من ذلك وأجل، فإن الله سبحانه وتعالى عليم، سميع، بصير، رحيم، كما أخبر عن نفسه، فهناك قدر مشترك لفظي فقط، بينها وبين صفات الإنسان، وهو أن الإنسان يدرك المسموعات التي تليق به، والله تبارك وتعالى يدرك المسموعات التي تليق به، وهو سبحانه قد أحاط بكل شيء علماً، ولا يفوته شيء، ولا يعجزه شيء، بخلاف الإنسان فإن سمعه محدود.
وكذلك البصر فإنه لا يخفى على الله -تبارك وتعالى- شيء، وأما الإنسان فبصره محدود.
فخوطبنا بهذه الكلمة من كلام العرب لكي نعرف حقيقة المعنى، ونميز بين هذا المعنى والمعنى الآخر، فكون الله سبحانه وتعالى سميعاً غير كونه بصيراً، وكذلك الإنسان له سمع وبصر، وكونه سميعاً يفرق عن كونه بصيراً، فإذا قلت لك: هذا إنسان بصير، فإنك تفهم أن له عيناً يبصر بها.
وإذا قلت لك: هذا إنسان سميع، فإنك فهمت شيئاً آخر، ولذلك جاءت الألفاظ في القرآن والسنة لتبين هذه المعاني، ونعرف القدر المشترك البسيط من إدراك المسموعات أو إدراك المبصرات، ولكن ليس الإدراك مثل الإدراك، أما حقيقة الذات المعني بها اللفظ فلا يمكن إدراكها، ولا يمكن للعقول أن تتخيلها أو تتوهمها، لأنك لا تستطيع أن تتخيل ما هو أهون من ذلك، وهو نعيم الجنة الذي هو أقل من ذلك بكثير.
فالدرجة الثالثة: إذاً هي درجة الأشياء التي لا تدخل تحت معرفة البشر الحسية أو العقلية، ولكن الخطاب يكون بما يماثلها ليقربها، وكلما كان البيان أكمل كلما كان تقريب المعنى لديه أعظم.
وهذا يستعمل حتى في الأشياء البشرية المستجدة؛ فلو أن هناك جهازاً اُخترع، وتريد أن تعرفه لإنسان وتشرحه له، وهو لم ير هذه الآلة من قبل، ولم يفكر فيها، فتضرب له مثلاً وتقول: هذه الآلة مثل الطائره -مثلاً- ليعرف أو يتصور شيئاً معيناً يميز به هذا الشيء، فإذا أريته الآلة، وقلت له: هذه الآلة التي كنت أشرحها لك، فإنه سيجد شيئاً غريباً لم يخطر على باله، والذي خطر على باله أولاً إنما هو شيء يميز به هذه عن غيرها.
وهذا هو فائدة الاسم في اللغة العربية، أن يميز به الشيء عن الآخر، فالأسماء توضع للتمييز بين الأشياء فقط، فهذا أحمدُ، وهذا عليٌ وهكذا، ولكن قد يكون هناك شخصان كلاهما اسمه علي، وتختلف حقيقة كل منهما، فالألفاظ تأتي للتقريب والدلالة، وأسماء الله تعالى وصفاته وضعت لها ألفاظ ليميز بعضها عن بعض.
وكذلك القدر المشترك اللفظي بين ما وصف الله سبحانه وتعالى به نفسه، وما وصف به خلقه من بنى الإنسان، أمر معقول في كل ذهن، لا في الحقيقة والواقع والذوات؛ فليس هناك أي تشابه على الإطلاق.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[وأما ما يخبر به الرسول من الأمور الغائبة، فقد يكون مما أدركوا نظيره بحسهم وعقلهم، كإخبارهم بأن الريح أهلكت عاداً، فإن عاداً من جنسهم والريح من جنس ريحهم، وإن كانت أشد، وكذلك غرق فرعون في البحر، وكذا بقية الأخبار عن الأمم الماضية. ولهذا كان الإخبار بذلك فيه عبرة لنا، كما قال تعالى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [يوسف:111] وقد يكون الذي يخبر به الرسول مما لم يدركوا مثله الموافق له في الحقيقة من كل وجه، لكن في مفرداته ما يشبه مفرداتهم من بعض الوجوه، كما إذا أخبرهم عن الأمور الغيبية المتعلقة بالله واليوم الآخر، فلا بد أن يعلموا معنى مشتركاً وشبهاً بين مفردات تلك الألفاظ وبين مفردات ألفاظ ما علموه في الدنيا بحسهم وعقلهم.
¥