ومن أمثلته: قول ابن ماجه: (باب كراهية لبس الحرير) [سنن ابن ماجه ص 1187 كتاب اللباس باب رقم 16.]، واستدل عليه بحديث: ((من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة)).
ثالثهما: أنه أطلق لفظ (الكراهة) على أفعال ورد النهي عنها بصيغة (لا تفعل) الدالة على التحريم عند تجردها من قرائن على قول جمهور العلماء.
ومن ذلك: قوله: (باب كراهية البول في المغتسل) [سنن ابن ماجه ص111 كتاب الطهارة باب رقم 12.]، واستدل عليه بحديث: ((لا يبولن أحدكم في مستحمه)). ومن ذلك: قول ابن ماجه: (باب كراهة مس الذكر باليمين والاستنجاء باليمين) [سنن ابن ماجه ص113 كتاب الطهارة باب رقم 15.]، واستدل عليه بحديث: ((إذا بال أحدكم فلا يمس ذكره بيمينه ولا يستنج بيمينه))، وبحديث: ((إذا استطاب أحدكم فلا يستطب بيمينه ليستنج بشماله))، ومن ذلك: قول ابن ماجه: (باب كراهية النخامة في المسجد) [سنن ابن ماجه ص251 كتاب المساجد باب رقم 10.]، واستدل على ذلك بحديث: ((إذا تنخم أحدكم فلا يتنخمن قبل وجهه)).
رابعها: أنه في مسألة النوم قبل صلاة العشاء والحديث بعدها، أورد الحديث فيها بأنه: ((كان يكره النوم قبلها والحديث بعدها))، وقد حمل العلماء هذا الحديث على الكراهة دون التحريم؛ لأدلة وردت في ذلك، ولهذا لما ذكر ابن ماجه المسألة لم يعبر عنها بلفظ الكراهة مع موافقة ذلك للفظ الحديث، وإنما عبر عنها بلفظ النهي، والنهي يشمل المكروه عند جماهير العلماء؛ ولذلك قال ابن ماجه: (باب النهي عن النوم قبل صلاة العشاء وعن الحديث بعدها) [سنن ابن ماجه ص 229 كتاب الصلاة باب رقم 12].
وبمقارنة رأي الإمام ابن ماجه في إطلاق لفظ الكراهة بمعنى التحريم بآراء الأصوليين، لا نجد هذا الرأي خارجا عن طريقتهم، فإن الأصوليين ذكروا أن لفظ الكراهة تطلق على عدد من المعاني منها التحريم [روضة الناظر 1/ 206، البحر المحيط 1/ 296، التقرير والتحبير 2/ 143.]، وقد ورد ذلك في القرآن الكريم، فإن الله ذكر شيئا من المحرمات في سورة الإسراء، ثم قال: ? كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ? [الآية 38].
وإن كان المشهور عند الأصوليين إطلاق لفظ الكراهة على النهي غير الجازم [تقريب الوصول ص 100، البحر المحيط 1/ 296، شرح الكوكب المنير 1/ 413].
والحنفية يقسمون المكروه إلى قسمين:
أولهما: المكروه تنزيها، وهو ما نهي عنه نهيا غير جازم.
وثانيهما: المكروه تحريما وهو ما نهي عنه نهيا جازما بدليل ظني [تيسير التحرير 1/ 53، فواتح الرحموت 588.].
وإذا أطلقوا لفظ الكراهة انصرف هذا اللفظ عندهم غالبا إلى المكروه تحريما [الحكم التكليفي ص: 221].
المبحث الثاني: مدلول لفظ الرخصة:
عبر الإمام ابن ماجه بلفظ الرخصة في عدد من المواضع من تراجم أبواب السنن، وبدراسة هذه المواطن يجد الباحث أنه
يطلق لفظ الرخصة على معان مختلفة:
المعنى الأول: يشمل الصور التي وجدت فيها علة التحريم لكن استثنيت هذه الصور بدليل خاص بها، أو بتعبير آخر: (المسائل التي ورد النص بالإباحة فيها مع وجود معنى فيها أنتج التحريم في غير هذه المسألة). ومن أمثلة ذلك: قوله: (باب الرخصة في ذلك - يعني استقبال القبلة عند قضاء الحاجة- في الكنيف) [سنن ابن ماجه ص116 كتاب الطهارة باب رقم 18]، فاستقبال القبلة في الكنيف عند قضاء الحاجة يوجد فيه المعنى الذي ثبت التحريم له، وهو كونه مستقبلا القبلة عند البول والغائط الذي تكلم عنه المؤلف في باب آخر، حيث قال: (باب النهي عن استقبال القبلة بالغائط والبول) [سنن ابن ماجه ص115 كتاب الطهارة باب رقم 17]، ولكن المؤلف استثنى من ذلك حال الكنيف؛ لورود الدليل بالإباحة فيه، وسماه رخصة.
ومن أمثلة ذلك: قول ابن ماجه: (باب ما جاء في الرخصة في الصلاة بمكة في كل وقت) [سنن ابن ماجه ص398 كتاب إقامة الصلاة باب رقم 149]، فجعل إباحة الصلاة في أوقات النهي لمن كان بمكة رخصة بعد أن قرر النهي عن الصلاة في تلك الأوقات، حيث قال: (باب ما جاء في الساعات التي تكره فيها الصلاة) [سنن ابن ماجه ص396 كتاب إقامة الصلاة باب رقم 148].
¥