المبحث الثالث: مفاد صيغة النهي:
أورد ابن ماجه صيغة النهي وبوب لها بالكراهة في عدد من المواطن في سننه، فاستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يبولن أحدكم في مستحمه)). كراهة البول في المغتسل [انظر: سنن ابن ماجه ص 111 كتاب الطهارة باب رقم 12.]، ومن قوله: ((إذا بال أحدكم فلا يمس ذكره بيمينه ولا يستنج بيمينه)): كراهة مس الذكر باليمين والاستنجاء باليمين، ومن قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا تنخم أحدكم فلا يتنخمن قبل وجهه ولا عن يمينه)) استفاد كراهة النخامة في المسجد [سنن ابن ماجه ص 251 كتاب المساجد باب رقم 10].
فقد يظن بأن ابن ماجه يرى أن النهي لا يفيد إلا الكراهة، ولا أرى ذلك صحيحا، بل ابن ماجه يوافق الجمهور في أن النهي يفيد التحريم. بدليل ما يأتي:
أولا: أن ابن ماجه يعبر بلفظ الكراهة وهو يريد التحريم كما سبق بيانه، والكراهة قد تطلق ويراد بها التحريم.
ثانيا: أن ابن ماجه عبر بلفظ النهي فيما ورد تأثيم فاعله مما يدل على أنه يرى أن النهي للتحريم، لأن الإثم إنما يلحق فاعل الحرام فهو يقول: (باب النهي أن يستلج الرجل في يمينه ولا يكفر) [سنن ابن ماجه ص 683 كتاب الكفارات باب رقم 11.]، ويستدل عليه بحديث: ((إذا استلج أحدكم في اليمين فإنه آثم له عند الله من الكفارة التي أمر بها)). فعبر بالنهي فيما فيه إثم مما يدل على أنه يرى أن النهي مفيد للتحريم.
المبحث الرابع: دلالة صيغة " لا تفعل " على النهي:
أورد ابن ماجه هذه الصيغة " لا تفعل " في مواطن من سننه وبوب عليها بأنها للنهي، فأخذ (النهي عن البول في الماء الراكد " [سنن ابن ماجه ص 124 كتاب الطهارة باب رقم 25.] من حديث: ((لا يبولن أحدكم في الماء الراكد))، واستفاد (النهي أن يرى عورة أخيه) [سنن ابن ماجه ص217 كتاب الطهارة باب رقم 137.] من حديث: ((لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل))، وفهم (النهي عن تقدم رمضان بصوم) [سنن ابن ماجه ص528 كتاب الصيام رقم 5.] من حديث: ((لا تقدموا صيام رمضان بيوم ولا يومين)) واستنبط: (النهي أن يقال: ما شاء الله وشئت) [سنن ابن ماجه ص684 كتاب الكفارات باب رقم 13.] من حديث: ((إذا حلف أحدكم فلا يقل: ما شاء الله وشئت)).
والقول بأن صيغة (لا تفعل) دالة على النهي هو مذهب الجماهير [العدة 2/ 425، تيسير التحرير 1/ 375، شرح الكوكب 3/ 77، اللمع 14].
المبحث الخامس: استفادة النهي من ترتيب العقوبة على الفعل:
قرر الإمام ابن ماجه أن بعض الأفعال منهي عنه واستدل على ذلك بأحاديث ترتب العقوبة على تلك الأفعال وذلك في مواطن عديدة.
فمثلا قرر ابن ماجه (النهي عن تخطي الناس يوم الجمعة) [سنن ابن ماجه ص 354 كتاب إقامة الصلاة، باب رقم 88.] أخذا من قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من تخطى رقاب الناس يوم الجمعة اتخذ جسرا إلى جهنم)).
وقرر (النهي عن المشي على القبور والجلوس عليها) [سنن ابن ماجه ص 499 كتاب الجنائز باب رقم 45.].
أخذا من قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لأن يجلس أحدكم على جمرة تحرقه خير له من أن يجلس على قبر)).
بينما قرر ابن ماجه كراهية بعض الأفعال؛ لأن الشرع قد رتب العقوبة عليها، وهذا يؤكد ما قرر قريبا من أنه يرى أن لفظ الكراهة يراد به ما اصطلح عليه أخيرا بالتحريم.
ومن المواطن التي قرر فيها ابن ماجه الكراهة لفعل؛ بناء على ترتيب العقوبة على ذلك الفصل قوله: (باب كراهية الخلع للمرأة) [سنن ابن ماجه ص 662 كتاب الطلاق باب رقم 21]؛ استدلالا بحديث: ((إيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة)).
وتقريره (كراهية الأيمان في الشراء والبيع) [سنن ابن ماجه ص744 كتاب التجارات باب رقم 30.] لما ورد من حديث: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم" وذكر منهم: " المنفق سلعته بالحلف الكاذب)).
ومن أمثلة ذلك قوله: (باب كراهية لبس الحرير) [سنن ابن ماجه ص 1187 كتاب اللباس باب رقم 16.]، واستدل على ذلك بحديث: ((من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة)).
¥