الدليل الثاني: أن الشرع قد استكمل المصالح فرعاها كلها بأحكامه، لأن الدين قد أكمل في العهد النبوي قال تعالى: ? الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ? [سورة المائدة الآية 3]. والقول بالاستصلاح يعني: أن هناك مصالح باقية لم يكفلها الشرع، وهذا ينافي ما تقدم من إكمال الدين وإتمام النعمة.
الدليل الثالث: أن الدليل إنما يكون شرعيا إذا جعله الشرع كذلك، وليس هناك في دليل صحيح صريح على جعل الاستصلاح حكما شرعيا.
الدليل الرابع: أن الشرع لم يعتبر المصالح المرسلة، فالمصلحة المرسلة ليست مشروعة لعدم اعتبار الشرع لها.
الدليل الخامس: أن المصالح المرسلة مترددة بين المصالح الملغاة والمصالح المعتبرة وليس إلحاقها بأحدهما أولى من الآخر.
وأجيب:
أ - بأن هذه المصلحة وإن كانت مرسلة عن دليل معين من الشارع على اعتبارها، إلا أنها معتبرة منه على سبيل الجملة، فكان إلحاقها بالمعتبر أولى من إلحاقها بالملغي.
ب - أن عدم الاحتجاج بالاستصلاح يعني إلحاق المصالح المرسلة بالمصالح الملغاة، وليس إلحاقها بها أولى من إلحاقها بالمصالح المعتبرة إذ هو ترجيح بلا مرجح.
ورد بأن الأصل عدم كون الأمور المستدل بها أدلة حتى يأتي الدليل الصحيح على كونها أدلة، فمع ترددها بين الاعتبار والإلغاء يصار إلى الأصل وهو عدم حجيتها.
وأيضا أن ترددها بين المصالح الملغاة والمعتبرة يلزمنا بالتوقف فيها ومعنى التوقف فيها عدم استخدامها دليلا.
الدليل السادس: أن في العمل بالمصالح المرسلة مجالا للأهواء والشهوات والأغراض فقد يغلب على المرء هواه فيرى المفسدة مصلحة والمضرة منفعة، فالإنسان مهما كمل لا يأمن أن يغلب هواه عليه وأن يزين له السوء ويجعله حسنا.
الدليل السابع: أن العقل قد تخفى عليه بعض وجوه الضرر والفساد، فالعقل مهما نضج لا يأمن من أن يخفى عليه بعض وجوه النفع والضرر.
الدليل الثامن: أن بناء الحكم على المصالح المرسلة بدون العلم بأن الشارع أثبت الأحكام حفظا لهذه المصلحة وضع للشرع بالرأي وحكم بالعقل المجرد وما كان كذلك فلا يصح التمسك به، فالاستصلاح ليس بحجة.
وكون الشارع اعتبرها بالجملة لا يعني أنه عرف من الشرع المحافظة على ذلك بكل حكم يكون طريقا من طرق المحافظة على المصلحة، فإنه لم يعرف من الشارع المحافظة على الدماء بكل طريق، ولذلك لم يشرع المثلة وإن كانت أبلغ في الردع والزجر، ولم يشرع القتل في السرقة، فإذا ثبت حكما لمصلحة من هذه المصالح لم يعلم أن الشرع حافظ على تلك المصلحة بإثبات ذلك الحكم، كان وضعا للشرع بالرأي وحكما بالعقل المجرد. [روضة الناظر، ص 170].
وأجيب:
أ - بأن الشارع حافظ على كل واحدة من المصالح بالأحكام المناسبة لحفظها، لا بكل حكم يكون طريقا من طرق المحافظة عليها دون نظر للأنسب، والمجتهد في الاستصلاح مأمور ببذل جهده في اختيار الحكم الأنسب لحفظ المصلحة، وهي وظيفة منحها الله إياه وجعل تأديته لها على الوجه المطلوب أمانة في عنقه، فلا نسلبها منه بحجة أنه لم يعرف من الشارع أنه حافظ على كل واحدة من المصالح بكل حكم يكون طريقا من طرق المحافظة عليها.
ب - أن الأحكام المبنية على هذه المصالح من قبيل التعزيرات لا من قبيل الحدود، والتعزيرات لا مانع من تغييرها بتغير البيئات والأحوال والأمكنة والأزمنة حفاظا على المصلحة، أما الحدود فلا تتغير، وإذا كان كذلك بطل ما أثاروه.
الدليل التاسع: أنه لو جاز الاستصلاح لما احتجنا إلى بعثة الرسل.
الدليل العاشر: أن جواز الاستصلاح يترتب عليه مفاسد كثيرة من وضع الشرع بالرأي، ومساواة العامي للعالم في ذلك؛ لأن كل واحد يعرف مصلحته، ونسبة النقص إلى النصوص.
فإذا عملنا بالاستصلاح وجعلناه دليلا شرعيا، فإن مما يدل عليه عدم الاحتجاج بالاستصلاح ذاته لما يترتب عليه من أضرار.
وهذا استدلال ضعيف؛ لأنه احتجاج بالاستصلاح على عدم حجيته.
الدليل الحادي عشر: أن القول ببناء الأحكام على المصالح المرسلة حصل منه اضطراب في الدين عظيم، فكثير من الأمراء والعلماء والعباد رأوا مصالح فاستعملوها بناء على هذا الأصل وقد يكون منها ما هو محظور في الشرع ولم يعلموه.
¥