كما أنك تجد عند هؤلاء تعظيم شديد لبعض المسائل التي اتصلت بالنص بسببٍ؛ كأن يكون داخلاً في عمومه، ولو كان من جنس النادر الذي يناقش الأصوليون حكمه بالنظر إلى عدم قصده، أو كان تعلقه بالنص عن طريق استنباط، مع أن المسألة قد تكون محتملة ولها موجبات أخرى أقوى مستفادة من معاني النصوص وإن لم يصرح فيها.
ثم تجد عند هؤلاء في المقابل سعة فيما لم يرد فيه نص صريح، أو كانت واقعة حادثة، مع أن دلائل النصوص عليها قد تكون في أقوى ما يكون من مراتب الدلالة.
لكن ضعفت المسألة عندهم لأن النص لم يصرح بحكمها في عين صورتها.
وهذا اتجاه ظاهري بجلاء، ولك أن تقول: نزعة ظاهرية متجذرة، ولكن غالب أصحابه لا ينتسبون إلى المدرسة الظاهرية وربما عابوا على ابن حزم جموده، وتندروا عليه في بعض أقواله.
وينتسبون بحسب الظاهر إلى المدرسة القياسية المقاصدية.
هذا من جهة الانتساب لكن عند التأمل في التطبيقات الفقهية تجد أن ما يثبتونه من القياس أو المقاصد إنما يكون من جنس ما صرح النص بمعناه، وهو ما أثبته بعض أهل الظاهر كالنهرواني والقاساني.
وأنهم في الغالب الكثير يقفون عند ظاهر النص مقتطعاً عن معناه، ومقتطعاً عن مجموع ما أفادته النصوص.
يؤكد ذلك طريقة تكوينهم العلمي عن طريقة دراسة العلم من الإفادة المباشرة من النص، وربما استغرقوا في دراسة الإسناد بما يكون معه الكلام في المتن حشواً بإزائه.
ومن الجدير بالذكر هنا أن أهل الظاهر القدامى كانوا في مقدم من اعتبر التراكم الفقهي، ولذا فقد تخرجوا كلهم عن طريق مدرسة الشافعي، وقصة داود مع إسحاق بن راهويه معروفة إذ دخل داود على شيخه إسحاق وهو يحتجم قال: فجلست، فرأيت كتب الشافعي، فأخذت أنظر، فصاح بي إسحاق: أيش تنظر؟ فقلت: * (معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده) [يوسف: 75]. قال: فجعل يضحك، أو يتبسم. ([1])
كما أنك تجد أن أهل الظاهر القدامى كانوا يذكرون الأقوال ويتخيرون منها، أو يرجحون غيرها بحسب منهجهم لكنهم على أية حال لم يكونوا يغفلون كلام الفقهاء بل ذكروه ودرسوه، ونقلوا تفاريعهم وحججهم ثم بنوا على ذلك ما انتهوا إليه من أقوالهم.
أما ظاهرية اليوم فإنهم يجرون علميات استئناف جديدة من غير تكلف النظر في تفاريع الفقهاء، وإذا كان عامة أهل العلم أنكروا على أهل الظاهر شذوذاتهم، مع أنهم كانوا ينظرون في أقوال الفقهاء فكيف بمن لا يتكلف أصلا الاطلاع على كتب الفقهاء، وحظه منها الاستظراف بنوادرها.
وإنما هم في مرتبة "المجتهد المستقل" كأبي حنيفة والشافعي وأضرابهما:
"وما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس في مجمع! "
أما الطريقة الثانية لعمليات استئناف الفقه:
فهي استخراج الحكم عن طريق النظر إلى ملاءمته مع ما يفيده العقل الصحيح وما جاء عن مقاصد الشريعة الضرورية.
وهذه الطريقة:
تشبه طريقة المعتزلة في اعتبار العقل ومحاكمة النص على وفقه، وقد وقع الإجماع المنضبط على ذم هذه الطريقة وأصحابها.
وتشبه الاستحسان القديم المذموم، الذي أحياه هؤلاء اليوم بعد أن تحول الاستحسان القديم أثرا بعد عين إذ تبرأ منه أصحابه الذين نسبوا إليه من أهل الرأي وغيرهم.
وفات هؤلاء أن الشريعة تكليف من الله سبحانه: أوامر ونواهي، وأن البشر مأمورون بالانضباط فيها.
وفات هؤلاء أن للشريعة مقاصد خاصة في كل باب ينبغي مراعاتها، وأن للشريعة مقاصد خاصة في بعض أعيان المسائل.
وفات هؤلاء حرص الشارع وتشوفه إلى ضبط الناس.
وفات هؤلاء فقه أعيان المسائل التي صرحت النصوص بحكمها، ومحاولة فقه مأخذ الشريعة.
وفات هؤلاء أن الفقهاء قد اشتغلوا ببناء بعض الفنون الخاصة لضبط قانون الشريعة وبيان ما يظن أنه خرج عن مساره ككتب القواعد وكتب الوجوه والنظائر، وأن المسألة أكبر من الانحصار في معرفة مبادئ الشريعة العامة، فالكلام في تفاصيل الشريعة حسب حكم الشارع المفصل مصدره.
وأخيراً فإن عملية استئناف الفقه بنظري عملية خطيرة، وإن انجر في مساراتها المتعددة جماعات من أهل الفضل، ووجه خطورتها أمور، منها:
1 - أنها تقتضي الخروج عن الإجماعات المستيقنة التي دونها فقهاء المسلمين في مصنفاتهم، وإن هذه الأمة قد حفظها الله أن يعزب الحق عن مجموعها أو أن تجمتع على باطل، ولا تزال هذه الأمة ظاهرة على الحق بحججها وبيناتها.
¥