نظرة جادة: للوقوف على الأسباب الحقيقية التّي جعلت كتب الفقهاء تحوي أحاديث ضعيفة.
ـ[أبو سعيد الجزائري]ــــــــ[27 - 10 - 09, 04:15 م]ـ
نظرة جادة:
للوقوف على الأسباب الحقيقية التّي جعلت كتب الفقهاء تحوي أحاديث ضعيفة.
إنّ المتأمل في كتب الفقهاء منذ بداية القرن الأوّل إلى القرون المتأخرة تتبادر في ذِهنه أسئلة كثيرة ...
.......
من بين هذه الأسئلة:
ما يطرحه كثير من إخواننا الطلبة حول اِحتواء هذه الكتب على أحاديث حَكَم عليها المحدثُّون - قديما أو حديثاً- بالضعف.
لي صديق ...
كنت أتساءل معه دائما عن السبب ...
سألنا مرة أحد الشيوخ عندنا، فأجابنا ببساطة ...
وقال:
إنّ الفقهاء يحاولون الانتصار لمذاهبهم بكلّ طريقة، حتىّ وإن كلفهم ذلك العمل بأحاديث ضعيفة .... (!).
ربما في البداية تُعجِبك مثل هذه الإجابة ....
وربما تحسب نفسك وقفت على سبب هام يجيب عن مشكلتك ....
.........
إلاّ أنّي أظنّ أنّك إذا اطلَّعت على بعض المسائل في الفقه المقارن، ووجدت بعض الأئمة الذّين عُرِفوا بمحاربة التعصب والتشديد على أهله، هم أنفسهم حَوَت كتبهم كثيراً من الأحاديث الضعيفة.
بل ... إذا رأيت ... ثمَّّ رأيت ...
وجدت أنّ أئمة عُرِفوا بالتحديث، ونقد الرجال، بل هم من أصَّلوا لعلوم الحديث، تجد حاشية المحقق في كتبهم قد مُلِئت بالتعقيب والتوهيم.
من أجل ذلك ...
فإنّ الحريص يجب عليه أن لا يقف على هذه المسائل وقفات قصيرة، ولا يرضى لنفسه بإجابات سريعة ...
بل عليه أن يمحص، وينظر بجدية ...
فمن غير المعقول أن نبقى نردد جُملةً نحسب أنّها الحق الذّي خَفِي على أئمة الدّين منذ 15 قرناً.
فما هي الأسباب الحقيقية
التّي جعلت حواشي كتب الفقهاء يملأها المعلِّقون والمحققون بالتعقيب والتوهيم؟
حاولت أن أَقِف على بعضها أخي القارئ ...
وها أنا أعرضها عليك ...
فإن وجدت فيها أخي خيرا ... فانصرني بالشواهد ...
وإن وجدت أخطاءً ... فلست أَدَّع العصمة ... وأنتظر منك أن تُنبِّهني أخي دون توبيخ أو تجريح ...
ـ[أبو سعيد الجزائري]ــــــــ[27 - 10 - 09, 04:18 م]ـ
السبب الأوّل:
يتعلق بالحديث المرسل.
فالمرسل في اصطلاح المحدثين هو:
"أن يقول التابعي قال رسول الله صلى الله عليه وسلمكذا، أو فُعِل بحضرته كذا، أو نحو ذلك، ولا يذكر الصحابي".
قال الزركشي في البحر المحيط، (3/ 457):
أنّ جمهور المحدثين قالوا أنّ المرسل: تَركُ التابعي ذِكر الواسطة بينه وبين رسول اللهصلى الله عليه وسلم".
ومعلوم أنّ الحديث المرسل عند جمهور المحدثين ضعيف لا تقوم به حُجَّة.
أمّا عند جماهير الفقهاء:
(أبو حنيفة، ومالك، وأحمد في الرواية المشهورة عنه) فالإرسال لا يضر، والمرسل حُجَّة يجب المصير إليها.
وقد ناصر أتباع المذاهب الثلاثة هذا القول، وبسطوا له الأدلة في مدوناهم الأصولية، واختاره كثير منهم: كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رضي الله عنهم جميعاً.
وقد نقل بعضهم الإجماع في قبول مراسيل الثِقة في الصدر الأوّل ومن بعدهم من التابعين.
قال محمد بن جرير الطبري:
"إنكار المرسل بدعة ظهرت بعد المائتين".
وأكَّدوا ذلك بروايات الصحابة ومن بعدهم للمراسيل دون إنكار.
أمّا الشّافعي فقد توَّسط بين المحدثين وجمهور الفقهاء، فقال بِضعفه ضعفاً يسيراً بحيث إذا عَرَض إليه أحد المؤيِّدات الأربعة صار عنده حجة.
وقد جاء في رسالته كلام عن هذه المؤيِّدات، فقال (ص: 362):
"أن يُروى مسندا، أو مرسلا من وجه آخر، أو يفتي به بعض الصحابة، أو أكثر أهل العلم".
ولست هنا أخي القارئ لأرجِّح لك القول في حُكم المراسيل، فمازلت صغيراً على ذلك
وإنّما أردت أن تَقِف أخي على السبب الأوّل الذّي أوقفك على بعض الأحاديث التّي عَلَّق عليها محقِّق الكتاب بأنّها ضعيفة.
......
هذا، وإنّ عدد الأحاديث المرسلة ليس باليسير.
قال علاء الدّين البخاري في كشف الأسرار (3/ 5):
"وفيه – أي في ردّ المرسل- تعطيل كثير من السنن، فإنّ المراسيل جُمِعت فبلغت قريباً من خمسين جزءاً".
فإذا علمت ذلك جيِّدا أخي القارئ
فإنّ أكثر الحنفية والمالكية والحنابلة يَرَون أنّ الأحاديث المرسلة حُجَّة يجب العمل بمقتضاها.
وعند الشّافعي لا يقول بضعفه مباشرة، وإنّما يَتقوَّى لأنّ ضعفه يسير
فلا تعجب إذا قرأت في كتب النووي، وابن حجر، وابن السبكي، وكبار الشّافعية أحاديث يعتبرها المحدثون في حكم الضعيف، فما عَمِل بها هؤلاء إلاّ لإِلزامية اقترنت بها.
ـ[أبو سعيد الجزائري]ــــــــ[27 - 10 - 09, 04:19 م]ـ
السبب الثّاني:
قد يكون الحديث ضعيفا والإمام يدري ذلك، إلاّ أنّ منهجه:
العمل بالضعيف إذا لم يوجد في المسألة غيره.
لأنّه:
يرى تقديم العمل به على العمل بمقتضى القياس والله أعلى وأعلم.
قال ابن القيم في إعلام الموقعين (1/ 33) يحكي أصول الإمام أحمد:
" الأصل الرّابع:
الأخذ بالمرسل والحديث الضّعيف، إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه، وهو الذّي رجَّحه على القِيَاس".
ثمّ قال:
"وليس أحد من الأئمة إلاّ وهو موافقه على هذا الأصل من حيث الجملة، فإنّه ما منهم أحد إلاّ وقد قدَّم الحديث الضعيف على القياس".
وقال الإمام ابن حزم:
"جميع أصحاب أبي حنيفة مجمعون أنّ ضعيف الحديث أولى عنده من القياس والرأي".
ومن أمثلة ذلك:
قدّم الإمام أبو حنيفة حديث:
"أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة أيام".
الذّي اتفق أكثر الأئمة على تضعيفه على محض القياس، فإنّ الذّي تراه في اليوم الثالث عشر مُساوٍ في الحدِّ والحقيقة والصفة لدم اليوم العاشر.
وقدَّم حديث:
"لا مهر أقل من عشرة دراهم" الذّي أجمعوا على ضعفه (بل بطلانه) على محض القياس، فإنّ بذل الصداق معاوضة في مقابلة بذل البُضع، فما تراضيا عليه جاز قليلاً كان أو كثيراً.
وقدَّم الإمام الشافعي كما يقول الإمام ابن القيم خبر تحريم صيد وجٍّ (واد بالطائف) مع ضعفه على القياس.
فَمِن غير المعقول أخي القارئ أن نَعِيب على واحد من الفقهاء رأى أنّ العمل بالحديث الضعيف إذا لم يجد في المسألة غيره، ثمّ نُبقي الحكم على المسألة مرتبط بدليل عام أو مطلق ...
ونقول بعدها بأنّ العمل بالضعيف أثر من آثار التعصُّب.
¥