إذن فالأصل أنّ قراءة السيرة ليست قراءة قصص ولا حكايات، وإنما هو قراءة عِظة واعتبار؛ لأنّ بالسيرة أخْذ الفوائد وأخْذ ما ينفع المؤمن ويبعث فيه أنواعا من الخير والهدى والاستمساك بالحق؛ ?فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ? [الزخرف:43 - 44].
تنوّعت اهتمامات أهل العلم بالسيرة، وذلك لعظم شأنها.
والسيرة المقصود بها: ما أُثر عن النبي ? وعن أصحابه وعن التابعين وعمّن بعدهم من أهل العلم في وصف حال سير النبي ? وحال طريقته وهيئته منذ وُلد عليه الصلاة والسلام إلى أنْ توفاه الله جلّ وعلا.
فالسيرة إذن هي حكاية لما كان عليه النبي ? من حين ولادته إلى أنْ توفاه الله جلّ وعلا، فيها بيان ما حصل له من ولادته، وما كان في ولادته من ظهور بعض المعجزات، وظهور بعض الإرهاصات لمبعثه عليه الصلاة والسلام، وذِكر رَضاعه عليه الصلاة والسلام، وذِكر أحواله وأمه وأخواله وأشباه ذلك، وذِكر هديه عليه الصلاة والسلام وسيرته في صغره حتى بعثه الله جلّ وعلا، وما كان يتّصف به قبل المبعث من أنواع الأخلاق والشمائل.
كذلك سيرتُه عليه الصلاة والسلام حكاية لحاله منذ بعثه الله جلّ وعلا، فبلَّغ دعوة الله، وصبر على ذلك، وما ناله من الأذى، وكيف بلَّغ، والسُّبل التي اتخذها للبلاغ، إلى أنْ هاجر إلى المدينة، ومن مهاجره إلى المدينة وتأسيسه لدولة الإسلام الأولى إلى أن توفاه الله جلّ وعلا، ويُدخل فيها عددُ من أهل العلم ما كان بعد ذلك من سيرة الخلفاء الراشدين وما حصل لهم من أنواع الفُتوح.
إذن فالسيرة طريقة وهيئة، والسيرة أيضا مأخوذة من السَّيْر: سار يسيرُ سيرًا؛ يعني ما سار عليه النبي عليه الصلاة والسلام، وقد جاء في القرآن ذكر السيرة بمعنى الطريقة والهيئة في قول الله جلّ وعلا ?سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى? [طه:21].
فالسيرة إذن تشمل طريقة السير وتشمل الهيئة التي كان عليها السير، ولذلك تجمع السيرة على سِيَر، ويُذكر فيها أنواع المغازي والفتوح، ويُذكر فيها أنواع ما حصل له عليه الصلاة والسلام وما حصل لصحابته من بعده.
فإذن السيرة لها معنًى لُغوي ولها معنى اصطلاحي كما ذكرت لك.
ودرج العلماء على أنّ المراد بالسيرة حين تُذكر السير ما دون في كتب مخصوصة أسموها كتب السيرة وكتب السير، وهذا يجعلنا نفيضُ في أنّ الكتابة في سيرة المصطفى ? وفي مغازيه كانت متقدمة في الزمن الأول:
فذكر العلماء أنّ أبانَ بن عثمان بن عفان ابن الخليفة الراشد هو أول من دوّن سيرة المصطفى ? ودوّن مغازيه، وكانت وفاة أبان رحمه الله تعالى سنة خمس ومائة (105هـ)، وكان أخذ عن عدد كبير من الصحابة، وأخذ عنه عددٌ كبير أيضا من التابعين.
وممن شُهر أيضا برواية السيرة وتتبعها عروة بن الزبير بن العوام، فقد كان إمامًا في المغازي، وله مغازي ألفها وجمعها باسم مغازي عروة، وقد جُمع بعضها وطبع.
وكذلك ممن اهتم بالسيرة ابن شهاب الزهري الإمام المعروف سيد المحدثين في زمانه، جمع في السيرة كتابًا وفي المغازي كتابًا، في ما ذكره له عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى.
وكذلك ممن كتب في السيرة من الأولين -من التابعين- عاصم بن عمر بن قتادة، وغيره من ثقات أهل العلم في القرن الأول وفاتحة القرن الثاني.
بهذا يتبيّن أنّ كتابة السيرة كانت متقدمة جدًّا، ولهذا صار أهل العلم بعدهم يأخذون مأخذ التابعين في العناية بالسير والعناية بالمغازي، فقد جمع ما سمع من بعض هؤلاء جمعه العالم المعروف محمد بن إسحاق المدني في كتاب ”السير والمغازي“ والذي قيل إنه ألفه بإشارة من أبي جعفر المنصور لما زار ابن إسحاق بغداد فأشار أبو جعفر إلى ابنه وقال لابن إسحاق أتعرف هذا قال نعم هذا ابن أمير المؤمنين، فقال له صنّف له كتابًا فيه ذكر الأخبار من خلق آدم عليه السلام إلى يومنا هذا، فكتب ابن إسحاق ذلك، وكتاب ابن إسحاق رُوي عنه وانتشر بعده رحمه الله تعالى، وهو إمام في السِّير اجتمع لديه ما تفرّق فيمن قبله من التابعين الثقات.
¥