وإذا كان كذلك فإنّ كتاب ابن إسحاق لم يوجد كاملاً في زماننا هذا، وإنما وُجِد من مغازي وسير ابن إسحاق ما انتقاه ابنُ هشام العالم اللّغوي المعروف، وهذا الانتقاء أجمع العلماء على حُسنه وعلى أنه استخلص من سيرة ابن إسحاق ما أثني على مؤلفه به، وهو لا يروي السيرة عن ابن إسحاق مباشرة، وإنما يرويها بواسطة رجل عن ابن إسحاق، وهذه السيرة هي المعروفة الآن بـ”سيرة ابن هشام“.
وهذا تطور في أهل العلم فكتب في السير عدد:
كتب ابن حزم في السيرة وسماها ”جوامع السيرة“.
وكتب ابن سيد الناس سيرة.
والعلماء تتابعوا على كتابة السير ومعتمدهم فيما ذكره ابن هشام عن ابن إسحاق، أو فيما ذُكر في غير ذلك من المغازي.
كذلك من الذين اهتموا بكتابة السير الواقدي، والعلماء منهم من يأتمنُه ويثني عليه في المغازي، ومنهم من يقول هو في المغازي كشأنه في الحديث لا يقبل حديثه، ومغازي الواقدي غير موجودة الآن؛ يعني فيما ذكر من سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، واعتمدها عدد من أهل العلم، والصواب أنّ الواقدي ليس بثَبْت فيما ينقل، بل ربما حصل له من الخلط في الروايات والزيادات ما لا يعرف عن أهل العلم، فلا يُقبل من حديثه في المغازي ما تفرّد به عن العلماء سيما ما كان معارضا لأصل من الأصول أو ما كان مخالفا لما دلّ عليه كلام أهل العلم في السِّير.
وممن كتب أيضا في السير ابن سعد صاحب الطبقات في أول الطبقات كما هو معروف، وجماعة كتبوا في ذلك.
وهذه هي التي تسمى كتب السيرة أو كتب السير تتابع العلماء فيها إلى زماننا هذا.
وهناك كتابة للسير بطريقة أخرى، وهي طريقة أهل الحديث، فإنهم اعتنوا بسيرة النبي ? وبذكر أحواله ومغازيه وأشباه ذلك فيما أوردوه في كتب الحديث، فتجد في صحيح البخاري رحمه الله كتاب المغازي، وتجد في مسلم السير، وتجد في أبي داود كذلك، وهكذا في بعض أخبار وربما طُوِّلَت، وكذلك اعتنى بها أهل الحديث في مصنفات مفردة ذكروا فيها أسانيدهم فيما يتعلق بالسير ولكن فيها ما يصح وفيها ما ينكر، وكما قال الحافظ زين الدين العراقي:
وليعلم الطالبُ أنّ السِّيرَ تجمع ما صح وما قد أُنْكِرَ
فصنّف البيهقي كتاب ”دلائل النبوة“، وصنف أبو نعيم الأصفهاني أو الأصبهاني أحمد بن عبد الله العالم المعروف صنف ”دلائل النبوة“، وصنف الفريابي ”دلائل النبوة“، فأهل الحديث اعتنوا بكتابة السير من جهتين:
? الجهة الأولى ما ضمنوه في مصنفاتهم من الصحاح والمسانيد من ذكر السير سواء كانت مبوبة أو لم تكن مبوبة.
? وكذلك ما أفردوه من التآليف في هذا في ذكر دلائل النبوة.
وكما ذكرنا أنّ كتب السِّير ليست معتنية بالصحيح، وإنما يذكر فيها ما نُقل في السيرة، ولهذا قال الزين العراقي فيما ذكرت لك:
وليعلم الطالبُ أنّ السِّيرَ تجمع ما صح وما قد أُنْكِرَ
ففيها الصحيح وفيها المنكر وهذا أمر بيّن فإنّ سيرة ابن إسحاق مثلا فيها من الصحيح كثير وفيها من المنكر الكثير، فهذا من جهة ما اشتهر من ذكر مصادر السيرة.
وإذا كان كذلك فالذي ينبغي تحقيقًا لمقام السيرة أنْ تضبط مصادر السيرة وأنْ تؤخذ السيرة بضابط مهم في ذلك، وهو جواب السؤال: كيف نأخذ السيرة بطريقة مأمونة؟
? أعظم ما تؤخذ منه سيرة المصطفى ? القرآن؛ لأنّ:
في القرآن ذكر حياته عليه الصلاة والسلام صغيرًا ?أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى? [الضحى:6].
وفيها ذكر حالته عليه الصلاة والسلام قبل البعثة.
وفيها ذكر مبعثه عليه الصلاة والسلام.
وفيها ذكر مجيء الجن إليه يستمعون القرآن.
وفيها ذكر حالته عليه الصلاة والسلام مع المشركين ودعوته لهم.
وكذلك ما حصل من الهجرة، ثم في القرآن ذكر المغازي جميعا؛ فغزة بدر الكبرى في سورة الأنفال، وغزوة أحد في سورة آل عمران، وغزوة الخندق –الأحزاب- في سورة الأحزاب، وفتح مكة وصلح الحديبية في سورة الفتح، وهكذا، وحنين وتبوك في سورة براءة، إلى غير ذلك.
فإذا جمع طالب العلم ما تكلم به المفسرون من الصحابة فمن بعدهم على هذه الآيات حصل على مصدر قوي معتمد على معاني القرآن، وهذا اجتهد فيه طائفة من أهل العلم، لكن لم يُجمع فيما أعلم جمعًا كاملاً بحيث تكون السيرة على ما ذكره المفسرون، حاول بعض المعاصرين ذلك واجتهد فيه لكن لم يجمع كلام المتحققين من المفسرين على تلك الآيات.
¥