تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

أيضا هناك أنواع من الاستنتاجات الفقهية كان مبناها على حوادث من السيرة، وحوادث السيرة ليست أدلة في نفسها على مسائل الفقه حتى تثبت تلك الحوادث، إمّا بدلالة القرآن عليها، أو بما ثبت في السنة من ذلك، وإما بما ذكره الصحابة في تفسير القرآن وتفسير السنة في تلك الأحوال، لهذا نجد أنّ كثيرين أخذوا بعض حوادث السيرة فاستفادوا منها أحكاما فقهية وفي الواقع هذه الأحكام غلط؛ لأنّ الدليل عليها ليس بقائم ولا يصح أنْ يكون دليلا إما لضعفه أو لنكارته أو لبطلانه وأشباه ذلك، وابن القيم رحمه الله تعالى اعتنى كثيرا في كتابه ”زاد المعاد“ في ما ذكر من سيرة النبي ? اعتنى بتحقيق حوادث السيرة سواء ما كان منها في مكة أو في المغازي وتبيين الصحيح من الروايات من جهة الفقه والفوائد الفقهية على ذلك، فكتابه أصل في هذا الباب.

أيضا من الأغلاط في دراسة السيرة ما غَلِط به بعض المبتدئين من الدعاة أو بعض من لم يعتنِ بالعلم من المهتمين بالدعوة، فجعلوا كثيرا من مسائل الدعوة أدلَّتها من السيرة، ولم ينظروا في ما جاء في النصوص أو ما قاله أهل العلم في تلك المسائل.

مثلا: استدل بعضهم بحادثة سعد بن أبي وقاص حينما رمى بحجر وشجّ وجه المشرك في مكة، قال بعضهم: إنّ هذا دليل على جواز الاغتيالات. وأخذوا في مبحث الاغتيال مستندين إلى هذا، وهذا لا شك أنه ليس بمنهج علمي صحيح إذْ حوادث السيرة تؤخذ للعلم بها وإنما يحتج بما صح عن النبي ?، أو صح عن صحابته وأقره عليه الصلاة والسلام في حياته.

من الأمثلة، مثلا: ما ذكره بعضهم من أنّ اجتماع بعض الشباب في مسجد النبي ? ليرى رأيه في غزوة أحد أنّ هذا دليل على مشروعية الاعتصام في المساجد ومشروعية المظاهرات، وهذا لا شك أنه خروج عن المنهج العلمي الصحيح وتلمس للمخرج، وليس لإقامة دليل يقيم الحجة بين العبد وبين ربه جلّ وعلا.

ومن أمثلة ذلك ما جاء في بعض كتب السيرة من ذكر الكتمان الذي كان بين الصحابة رضوان الله عليهم في مكة وخلصوا منها إلى أنّ هذا الكتمان والإيصاء بالتكاتم دليل على أنّ الدعاة يلجأون إلى الدعوة السرية وأنّ هذا أصل في الدعوة السرية وتنظيماتها، وهذا إذا عرض على العلم الصحيح وكلام أهل العلم والمحققين وُجد أنه ليس بدليل على ذلك، إذْ الكتمان في المسألة لا يدل على الكتمان في كل شيء، وتفاصيل ذلك معروفة في كلام أهل العلم في كلام ابن القيم ومن تبعه.

كذلك من المسائل الدعوية التي ذُكرت كالاستفادة من كتب السيرة: ما فصَّلَتْهُ بعض الفئات أنّ النبي ? دعا في مكة ثلاثة عشر عاما، وهذا يدل عندهم على أنّ الدعوة يجب أنْ تكون سرية كالعهد المكي بجميع ما في العهد المكي من أحكام، وأنْ تكون مُدَّتُها ثلاثة عشر عامًا كما قالته بعض الأحزاب في بعض البلاد الإسلامية، فجعلوا الدعوة منقسمة إلى عهد مكي وإلى عهد مدني، والعهد المكي ثلاثة عشر عاما، ولما أنشأ بعضهم هذه الفكرة وأنشأ حزبًا عليها وانتهت ثلاثة عشر عاما بدون تمكين لهم، قالوا هذا التمكين حصل للنبي ? بعد ثلاثة عشر عاما؛ لأنه هو المصطفى ?، فإذا لم يحصل لنا التمكين نكرر ثلاثة عشر عاما، فإذا لم يحصل نكرر ثلاثة عشر عاما، وهذا من البعد في الاستدلال كما هو ظاهر لكل من له عقل صريح فضْلا عن أنْ يكون من ذوي الانتساب إلى العلم.

كذلك بعضهم أخذ من السيرة تقسيمات الدعوة إلى مراحل وجعل المجتمع الذي يعيش فيه أيا كان ذلك المجتمع كالمجتمع المكي، فيعاشر الناس بعزلة شعورية كما فعلته بعض الفئات الغالية، ويعاشر الناس بأنهم مشركون أو أنه متوقف في شأنهم، كما تقوله جماعات التوقف والتبين، وأشباه ذلك، وهذا أيضا من الأغلاط الكبيرة وجدوا مستمسكا من الاستدلال؛ لكن ليس الشأن في وجود مستمسك من الدليل وإنما الشأن في أنْ يكون الدليل صحيحا ثم أنْ يكون وجه الاستدلال سليما، وأما ما يكون من جهة نوع الاستدلال فهذا يكثر في الشريعة حتى احتج بعض الناس بأنّ الخمر غير محرمة؛ لأنّ الله جلّ وعلا ما حرّمها في القرآن إنما قال ?فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ? [المائدة:90]، وهذا ترغيب وليس بتحريم.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير