وهل كان تفسير الإعفاء بالتكثير معنى منتحلاً ومزوراً، أو هو موجود في كتب اللغة أيضاً. فمن قال: إن الإعفاء يعني الترك فليأت به من كلام أهل الفقه، ومن فهم السلف.
الدليل الثاني:
ثبت عن ابن عمر أنه كان يأخذ من لحيته ما زاد على القبضة، وهو في البخاري
والسؤال: فعل ابن عمر هذا إما أن يكون موافقاً للسنة، أو مخالفاً لها.
فإن كان موافقاً لها فذاك.
وإن كان مخالفاً لها، وكان الأخذ من اللحية فعل يظهر لجميع الصحابة، خاصة أنه يتعلق باللحية، ومكان اللحية في الوجه فلا يمكن أن يخفى فعله على الصحابة رضوان الله عليهم، فليس كالقول ريما يسمع في مكان، ولا يسمع في مجلس آخر.
فيقال: إما أن يكون الصحابة قد أنكروا على ابن عمر مخالفته للسنة، أو لم ينكروا عليه.
فإن قلت: قد أنكر الصحابة على ابن عمر مخالفته لسنة الرسول r، فأين النقل عنهم، أين قولهم لابن عمر: لا يحل لك هذا الفعل، وأين قولهم لابن عمر: إن هذا مخالف للسنة، أليس كل خير في الناس فللصحابة رضوان الله عليهم فيه صفة الكمال، فهم نصحة لله ولرسوله، وهم خير من طبق أمر الرسول r: " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه " وكانوا من أشجع الناس في هذا الأمر عاهدوا رسول الله صلى الله عليه على أن لا يخافوا في الله لومة لائم، فلماذا لا يأتينا إخواننا بنقل عنهم يثبت لنا فيه نصح الصحابة لابن عمر، ويثبتوا لنا فيه أنهم قد خالفوه وبالتالي نكون في راحة من أمرنا، ونسلم لهم دعواهم
إنني أطالب كل من يدعي بأن الصحابة قد أنكروا على ابن عمر مخالفته للسنة أطالبهم في توثيق هذه الدعوى من كتب السنة، وإلا كان هذا القول مجرد دعوى لا تغني من الحق شيئاً.
وإن قالوا: لم ينقل أنهم أنكروا عليه، ولم ينقل أنهم نصحوه بامتثال السنة:
كان هذا إما موافقة لهم على فعل ابن عمر، فيكون فعل ابن عمر ليس رأياً له وحده وهذا ما يليق بالصحابة رضوان الله عليهم،
أو يكون هذا تقصيراً منهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويكون الإخوة أكثر غيرة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا قدح في صحابة رسول الله r لا يليق بأهل السنة أن يظنوه بواحد من الصحابة فيكف يظن هذا بالصحابة كلهم.
فإن قيل: لعلهم رأوا أن المسألة اجتهادية، وأن الخلاف فيها سائغ.
قلنا: ألا يسع الإخوة ما وسع صحابة رسول الله r، ويرون أن الخلاف في المسألة سائغ، فهل يريدون أن أقول: لا وسع الله على من لم يسعه ما وسع صحابة محمد r. أليس إجماعهم على عدم الإنكار على ابن عمر يلزم المخالف أن يمتثل لما فعلوا، ولا ينكر على من رأى هذا الرأي.
وإن قال: لعلهم أنكروا عليه ولم ينقل.
قيل: لو أنكروا عليه لحفظ ونقل، كما حفظ فعل ابن عمر ونقل إلينا، بل الظن فيهم أن الإنكار لن يقتصر على براءة الذمة، فلن يكون إنكارهم مرة أو مرتين، بل سيراجعونه ويناظرونه حتى يتبين له الحق، وبهذا سوف يشتهر عنهم، فلما لم ينقل من ذلك شيء، دل على أن دعوى أن الصحابة خالفوا ابن عمر دعوى متوهمة، لا وجود لها إلا عند من اعتقد قبل أن يستدل
وقد نقل التابعون جملة من إنكار الصحابة رضي الله عنهم إذا رأوا ما يخالف السنة، وإليك بعض الأمثلة:
روى البخاري في صحيحه أن قريباً لعبد الله بن مغفل خذف، قال: فنهاه وقال: إن رسول الله r نهى عن الخذف، وقال: إنها لا تصيد صيداً ولا تنكأ عدواً، ولكنها تكسر السن، وتفقأ العين. قال: فعاد، فقال: أحدثك أن رسول الله r نهى عنه ثم تخذف، لا أكلمك أبداً.
ومنها ما رواه مسلم أيضاً من طريق سالم بن عبد الله، أن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها. قال: فقال بلال بن عبد الله: والله لنمنعهن. قال: فأقبل عليه عبد الله فسبه سباً سيئاً ما سمعته سبه مثله قط. وقال: أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: والله لنمنعهن ().
مع أن الحامل على هذا لم يكن معارضة السنة، وإنما هو شدة الغيرة، ومع ذلك سبه سباً ما سمع منه قط.
¥