فهذا يدل على أن ابن عمر كان شديد الحرص على اتباع الرسول r، فحين يأخذ ابن عمر ما زاد على القبضة فإنه بهذا يخالف نزعة ابن عمر في أخذه بالاحتياط واتباع الرسول r فلماذا هنا تساهل ابن عمر في ترك الاقتداء به، وخالف طبيعته، نعم لو كان ابن عمر لا يأخذ من لحيته، وكان غيره يأخذ منها، لقيل: هذا من احتياط ابن عمر، لكنه هنا خالف طبيعته في ترك الاحتياط، وأخذ من لحيته، فهل يترك حرصه على اتباع الرسول r إلا لدليل فهمه ابن عمر وجهله الناس.
موقف الإمام أحمد رحمه الله من فعل ابن عمر.
لقد كان الإمام أحمد رحمه الله إمام أهل السنة والفقه يأخذ برأي الصحابي ويعظمه، ويفتي به، فإذا خالف النص ترك قول الصحابي للنص، وكذا إذا عارض قول الصحابي ما هو أقوى منه من قول صحابي آخر.
فلم يلتفت الإمام أحمد إلى خلاف عمر بن الخطاب في المبتوتة لحديث فاطمة بنت قيس، ولا إلى خلافه في استدامة المحرم الطيب الذي تطيب به بل صحح استدامته بعد إحرامه لصحة حديث عائشة في ذلك، ولا إلى خلافه في منع المفرد والقارن من الفسخ إلى التمتع لصحة أحاديث الفسخ.
وكذلك لم يلتفت إلى قول علي وعثمان وطلحة وأَبِي أيوب وأُبَي بن كعب في ترك الغسل من الإكسال لصحة حديث عائشة أنها فعلته هي ورسول الله r فاغتسلا.
ولم يلتفت إلى قول ابن عباس وإحدى الروايتين عن علي أن عدة الحامل المتوفى عنها أقصى الأجلين لصحة حديث سبيعة الإسلمية، ولم يلتفت إلى قول معاذ ومعاوية في توريث المسلم الكافر، لصحة الحديث المانع من التوارث بينهما، ولم يكن يقدم على الحديث الصحيح عملاً ولا رأياً ولا قياساً، وقد نقلت هذا الكلام من ابن القيم في إعلام الموقعين.
ومع ذلك فالإمام أحمد أخذ بفعل ابن عمر رضي الله عنه في جواز الأخذ من اللحية بما زاد على القبضة، ولم يعتبره معارضاً لحديث ابن عمر وأبي هريرة أعفوا اللحى.
ولم يعتبر الإمام أحمد أيضاً فعل ابن عمر قد خالفه صحابي آخر أقوى منه، فضلا أن يدعى أنه معارض من جميع الصحابة، وإلا لترك أحمد فعل ابن عمر إلى قول الصحابة، وحسبك بالإمام أحمد في معرفة آثار الصحابة، وعمل السلف، فإن هذا الباب كان يتميز به الإمام أحمد عن بقية أئمة أهل الحديث.
أليس هذا فهماً من الإمام أحمد أن فعل ابن عمر لم يخالف نصاً، ولم يخالفه غيره من الصحابة، وقد سقت في ما سبق أقولاً للصحابة تركها أحمد لمخالفتها السنة، ولم يترك فعل ابن عمر، بل كان يفعله تديناً، وهو عكس ما فهمه الإخوة، من أن قول ابن عمر مخالف للسنة، مخالف لجميع الصحابة، فلم يثبت الأول كما لم يثبت الثاني.
جاء في كتاب الوقوف والترجل للخلال (ص: 129): " أخبرني حرب، قال: سئل أحمد عن الأخذ من اللحية؟
قال: كان ابن عمر يأخذ ما زاد عن القبضة. وكأنه ذهب إليه - قلت له: ما الإعفاء؟ قال: يروى عن النبي r، قال: كأن هذا عنده الإعفاء.
قلت: وعليه فالإمام أحمد يرى أن إعفاء اللحية، والأخذ ما زاد على القبضة لا يتنافيان، فليس المراد بالإعفاء إطالة اللحية بما يجاوز القبضة.
ثم قال موصولاً بالكلام السابق: " أخبرني محمد بن هارون أن إسحاق حدثهم، قال: سألت أحمد عن الرجل يأخذ من عارضيه؟ قال: يأخذ من اللحية ما فضل عن القبضة. قلت: فحديث النبي r أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى؟ قال: يأخذ من طولها، ومن تحت حلقه، ورأيت أبا عبد الله يأخذ من طولها، ومن تحت حلقه. وهذا النص في أحكام أهل الملل للخلال (ص: 11).
وجاء في مسائل أحمد رواية ابن هانئ (2/ 151): " سألت أبا عبد الله عن الرجل يأخذ من عارضيه؟؟
قال: يأخذ من اللحية ما فضل عن القبضة.
قلت: فحديث النبي r: " أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى " قال: يأخذ من طولها ومن تحت حلقه، ورأيت أبا عبد الله يأخذ من عارضيه، ومن تحت حلقه.
فإذا تركنا فهم الأخوة لفهم الصحابة ولفهم الإمام أحمد ألا يعذروننا، أليس فهم السلف ابن عمر وبعده الإمام أحمد أولى من فهم بعض المشايخ المتأخرين علماً وعملاً ووقتاً.
} بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه {().
ولقد ابتلينا بأناس يرون مخالفتنا إياهم مخالفة للرسول r، وفهمهم للنص بمنزلة النص من الكتاب والسنة، وأن عليك ألا تتجاوز أفهامهم للنصوص وإلا ضللت، ولو كنت على هدى من فهم الصحابة والسلف الصالح، وأن من خالف رأيهم فقد ارتكب منكراً يجب إنكاره وإلا لحقهم الإثم.
¥