المقدمة الثانية: إذا كانوا لا يجهلون الأمر بإعفاء اللحية، فإن السؤال، هل كان الصحابة لا يعرفون لغة مدلول كلمة الإعفاء في الأمر النبوي، وهذا أيضاً لا يمكن أن يقال: إن الصحابة، وهم أهل اللسان، وبلغتهم نزل التشريع، لا يمكن أن يقال: لا يعرفون مدلول كلمة الإعفاء. فبقي أن نقول بعد التسليم بالمقدمتين: وهو كون الأمر بإعفاء اللحية معلوماً لدى الصحابة، ومعنى الإعفاء معلوم أيضاً، فيبقى التسليم لفهم الصحابة أولى من التسليم لفهم من دونهم.
الدعوى الرابعة: أن الأخذ من اللحية في النسك خاصة.
إن قيل: إن الصحابة لم يأخذوا إلا في النسك؟
قيل: ثبوته في النسك دليل على جوازه خارج النسك؛ ولأن النسك قيد غير مؤثر، كما لو قرأ الرسول r سورة في صلاة، وكانت الصلاة في السفر، لايقال: إن ذكر السفر قيد في استحباب قراءة هذه السورة، والدليل على هذا:
وإني أذهب إلى القول بتقييد الأخذ من اللحية بالنسك إذا أجاب الإخوة على هذه الأسئلة الثلاثة:
السؤال الأول: هل اللحية لها تعلق لها بالنسك، أوأن النسك في شعر الرأس خاصة، ألم يبين الرسول r النسك من قوله، ومن فعله، وقال: خذوا عني مناسككم، فهل نقل عن الرسول r وهو يبين النسك في حجة الوداع ما يدل على أن اللحية لها تعلق بالنسك.
هل مات الرسول صلى الله عليه وسلم والمناسك لم تبين في حجته حتى جاء من بعده فأكملها.
السؤال الثاني: هل قال أحد من السلف إن الأخذ من اللحية خارج النسك حرام، أم أن السلف فهموا من فعل الصحابة داخل النسك، جواز هذا الفعل خارج النسك. قد يقول قائل أصحاب الشافعي رحمهم الله كرهوه خارج النسك، يقال: نعم ولم يحرموه، بل عبر بعضهم بالأولى كما هي عبارة العراقي. والمنقول عن إمامهم استحبابه داخل النسك، وقد سكت عنه خارج النسك فلم ينص على كراهته، وعلى كل فلم يحرموه خارج النسك، فحتى أجزم بتحريمه خارج النسك أحتاج إلى قائل يقول به من السلف، لا أن آتي به من كَيْسِي.
السؤال الثالث: هل يقول أحد إن الصحابة الذين أخذوا من اللحية في النسك لم يعفوا لحاهم حينئذٍ، وقد تشبهوا في المشركين في ترك الإعفاء. لأن الأمر بالإعفاء قد ربط بمخالفة المشركين كما هو معلوم.
هل تقول: إن التشبه بالمشركين داخل النسك مباح، وإذا كان خارج النسك كان محرماً، أم تقول: إن الصحابة، وإن أخذوا من لحاهم داخل النسك لم يخرجوا عن حد الإعفاء المأمور به، وإذا كانوا لم يخرجوا عنه داخل النسك، لم يخرجوا عنه خارج النسك.
فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد بين أن اللحية لا تعلق لها بالنسك، وأخذ الصحابة من اللحية في النسك دل على أن النسك قيد غير مؤثر، وأن الصحابة لم يخالفوا الأمر بإعفاء اللحية داخل النسك وخارجه، ولم يقل أحد بتحريمه خارج النسك، فهذا يدل على أن من اعتبر النسك قيداً مؤثراً قاله به من عنده.
هل يوجد قول بتحريم الأخذ من اللحية؟
الجواب: لا أعلم أحداً من السلف قال: لا يجوز الأخذ من اللحية مطلقاً، ولا عبرة بقول المتأخر؛ لأن المتأخر إنما هو متبع لمن سلف، وابتداع قول جديد في مسألة فقهية قديمة لا يسوغ ().
وقد ذكر ابن عبد البر والقاضي عياض وغيرهما الأقوال في الأخذ من اللحية، ولم أجد من بينها القول بتحريم الأخذ منها مطلقاً، فهو قول محدث.
قال ابن عبد البر: اختلف أهل العلم في الأخذ من اللحية، فكره ذلك قوم ()، وأجازه آخرون ().
وقال القاضي عياض في شرحه لصحيح مسلم: وأما الأخذ من طولها وعرضها فحسن، ويكره الشهرة في تعضيمها وتحليتها كما تكره في قصها وجزها، وقد اختلف السلف هل في ذلك حد؟ فمنهم من لم يحدد إلا أنه لم يتركها لحد الشهرة، ويأخذ منها، وكره مالك طولها جداً، ومنهم من حدد، فما زاد على القبضة فيزال، ومنهم من كره الأخذ منها إلا في حج أو عمرة () اهـ.
¥