وقال العيني في عمدة القارئ (22/ 46، 47): " قال الطبري: فإن قلت: ما وجه قوله: " أعفوا اللحى " وقد علمت أن الإعفاء الإكثار، وأن من الناس من إذا ترك شعر لحيته اتباعاً لظاهر قوله: " أعفوا " فيتفاحش طولاً وعرضاً ويسمج حتى يصير للناس حديثاً ومثلاً؟ قيل: قد ثبتت الحجة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على خصوص هذا الخبر، وأن اللحية محظور إعفاؤها وواجب قصها على اختلاف من السلف في قدر ذلك وحده، فقال بعضهم: حد ذلك أن يزاد على قدر القبضة طولاً وأن ينتشر عرضاً فيقبح ذلك، وري عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه رأى رجلاً قد ترك لحيته حتى كبرت، فأخذ يجذبها، ثم قال: ائتوني بجلمتين، ثم أمر رجلاً فجز ما تحت يده، ثم قال: اذهب فأصلح شعرك أو أفسده، يترك أحدكم نفسه حتى كأنه سبع من السباع. ثم قال:
وقال آخرون: يأخذ من طولها وعرضها ما لم يفحش أخذه، ولم يحدوا في ذلك حداً .. ألخ كلامه رحمه الله".
فهذا ابن جرير الطبري يرى وجوب الأخذ من اللحية، وينسب هذا إلى السلف وإنما اختلافهم في قدر ما يؤخذ من اللحية، لا في تحريم الأخذ حيث قال: قد ثبتت الحجة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على خصوص هذا الخبر، وأن اللحية محظور إعفاؤها وواجب قصها على اختلاف من السلف في قدر ذلك وحده.
وقوله: محظور إعفاؤها يقصد الإعفاء بمعنى الترك، وإلا الإعفاء بمعنى التكثير فهو واجب، وحد ذلك القبضة، فما زاد فهو مباح أخذه وتركه.
وقال ابن حجر في الفتح (10/ 350): حكى الطبري اختلافاً فيما يؤخذ من اللحية هل له حد أم لا؟ فأسند عن جماعة الاقتصار على أخذ الذي يزيد منها على قدر الكف، وعن الحسن البصري أنه يؤخذ من طولها وعرضها ما لم يفحش. وعن عطاء نحوه. قال: وحمل هؤلاء النهي على منع ما كانت الأعاجم تفعله من قصها وتخفيفها. قال: وكره آخرون التعرض لها إلا في حج أو عمرة. وأسند عن جماعة واختار قول عطاء، وقال: إن الرجل لو ترك لحيته لا يتعرض لها حتى أفحش طولها وعرضها لعرض نفسه لمن يسخر به. اهـ
فهذا حصر الأقوال في المسألة، فأين تحريم الأخذ منها مطلقاً كما يعتقده من يعتقده عندنا فقط.
وهذا الإجمال في حصر الأقوال، وأما التفصيل في أقوال السلف، فهاك ما وقفت عليه:
اختلفوا في حكم الأخذ من اللحية من غير حلق،
فقيل: يكره أن يأخذ منها في غير النسك، وهو مذهب الشافعية.
وقيل: له الأخذ منها، وهو مذهب كثير من أصحاب النبي r( )، والحسن وابن سيرين، وقتادة، وعطاء، والشعبي، والقاسم بن محمد، وطاووس، وإبراهيم النخعي، ومذهب الحنفية والمالكية والحنابلة، واستحبه الشافعي في النسك، واختاره الطبري، ورجحه ابن عبد البر، والقاضي عياض، والغزالي من الشافعية، والحافظ ابن حجر، وغيرهم.
والقائلون بالأخذ منها اختلفوا في المقدار على قولين:
الأول: أنه لا حد لمقدار ما يؤخذ منها، إلا أنه لا يتركها لحد الشهرة، وهو مذهب المالكية.
والقول الثاني: أنه يؤخذ منها ما زاد على القبضة، وهو فعل ابن عمر.
ثم اختلفوا في حكم أخذ ما زاد على القبضة على خمسة أقوال:
فقيل: يجب أخذ ما زاد على القبضة، وهو قول في مذهب الحنفية، واختاره الطبري رحمه الله.
وقيل: إنه سنة، وهو المشهور من مذهب الحنفية، واستحسنه الشعبي وابن سيرين.
وقيل: إنه بالخيار، فله أخذ ما زاد على القبضة وله تركه، نص عليه أحمد، وظاهر هذا القول أنه يرى أن الأخذ من اللحية وتركها على الإباحة.
وقيل: الترك أولى، وهو قول في مذهب الحنابلة.
وقيل: يكره الأخذ منها إلا في حج أو عمرة.
وقد وثقت كل هذه النقول في كتابي الإنصاف ولا أحب أن أوثقها هنا حتى لا أثقل الكتاب.
فأين القول بتحريم الأخذ من اللحية مطلقاً من جهة السلف، فلا في الصحابة عرف هذا القول، ولا في التابعين ولا في الأئمة الأربعة ولا في مجتهدي هذه الأمة.
أعود لأعيد القول لكم، وأسألكم فأجيبوني هل قال أحد من السلف بتحريم الأخذ من اللحية مطلقاً أم لم يقل به أحد؟
فإن زعم أحد أنه قول محفوظ، فليأت به، فإنني باحث عنه، متعطش له، ولم أقف عليه، وقد يكون لقصور أو تقصير، وفوق كل ذي علم عليم.
فإن قلت: لم يقل به أحد.
فيقال لك هل كان السلف غافلين عنه، وتنبهتم له أو جاهلين به أم ماذا؟
فإن قال: نعم، كانوا غافلين عنه جاهلين به، كان هذا دليلاً على جهل قائله، وخرقاً للإجماع، وقدحاً في السلف.
¥