وإن لم يكن كافراً بالترك، فالقياس أنه لا قضاء بعد الوقت؛ لأن القضاء يحتاج إلى أمر جديد، وليس فيه أمر جديد، وإنما أمر بالقضاء من يكون القضاء كفارة له، وهو المعذور، والعامد لم يأت نص بأن القضاء كفارة له، بل ولا يدل عليه النظر؛ لأنه عاص آثم يحتاج إلى توبة، كقاتل العمد، وحالف اليمني الغموس.
وكيف ينعقد الإجماع مع مخالفة الحسن، مع عظمته وجلالته، وفضله وسعة علمه، وزهده وورعه؟
ولا يعرف عن أحد من الصحابة في وجوب القضاء على العامد شيء، بل ولم أجد صريحاً عن التابعين – أيضا- فيه شيئاً، إلا عن النخعي.
وقد وردت آثار كثيرة عن السلف في تارك الصلاة عمداً، أنه لا تقبل منه صلاة، كما روي عن الصديق – رضي الله عنه -، أنه قال لعمر في وصيته له: إن لله حقاً بالليل لا يقبله بالنهار، وحقاً بالنهار لا يقبله بالليل.
يشير إلى صلوات الليل والنهار.
وفي حديث مرفوع: (ثلاثة لا يقبل لهم صلاة)، ذكر منهم: (الذي لا يأتي الصلاة إلا دباراً) – يعني: [بعد] فوات الوقت.
خرجه أبو داود وابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو – مرفوعاً.
وفي إسناده ضعف.
ولكن مجرد نفي القبول لا يستلزم عدم وجوب الفعل، كصلاة السكران في مدة الأربعين، وصلاة الآبق والمرأة التي زوجها عليها ساخط.
فإن قيل: فقد قال تعالى: {فويل للمصلين…. ساهون} [الماعون: 4، 5]، وفسره الصحابة بإضاعة مواقيتها.
وكذا قال ابن مسعود في المحافظة على الصلاة: أي المحافظة على مواقيتها، وأن تركها كفر.
ففرقوا بين تركها وبين صلاتها بعد وقتها.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة خلف من أخبر أنه يضيع الصلاة ويصليها لغير وقتها، وهذا يدل على أن صلاتهم صحيحة.
وقد سئل عن الأمراء وقتالهم؟ قال: (لا، ما صلوا، وكانت على هذا الوجه)، فدل على إجزائها.
قيل: السهو عن مواقيت الصلاة لا يستلزم تعمد التأخير عن الوقت الحاضر؛ فإنه قد يقع على وجه التهاون بتأخير الصلاة حتى يفوت الوقت – أحياناً- عن غير تعمد لذلك، وقد يكون تأخيرها إلى وقت الكراهة، أو إلى الوقت المشترك الذي يجمع فيه أهل الأعذار عند جمهور العلماء، وغيرهم على رأي طائفة من المدنيين.
وهذه الصلاة كلها مجزئة، ولا يكون المصلي لها كالتارك بالإتفاق.
وقد سئل سعيد بن جبير، عن قوله: {فويل للمصلين…. ساهون}؟ فدخل المسجد، فرأى قوماً قد أخروا الصلاة، لا يتمون ركوعاً ولا سجوداً، فقال: الذي سألتني عنهم هم هؤلاء.
وهذه الصلاة مثل الصلاة التي سماها النبي صلى الله عليه وسلم: (صلاة المنافقين).
وهكذا كانت صلاة الأمراء الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة خلفهم نافلة، فإنهم كانوا يؤخرون العصر إلى اصفرار الشمس، وربما أخروا الصلاتين إلى ذلك الوقت، وهو تأخير إلى الوقت المشترك لأهل الأعذار، وكغيرهم عند طائفة من العلماء.
فليس حكمهم حكم من ترك الصلاة؛ فإن التارك هو المؤخر عمداً إلى وقت مجمع على أنه غير جائز، كتأخير صلاة الليل إلى النهار، وصلاة النهار إلى الليل عمداً، وتأخير الصبح إلى بعد طلوع الشمس عمداً.
وقد وردت أحاديث كثيرة تدل على أن نقص الفرائض يجبر من النوافل يوم القيامة.
فروى أبو هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله الصلاة، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، وإن انتقص من فريضته شيئاً قال الرب تبارك وتعالى: انظروا، هل لعبدي من تطوع فيكمل بها ما انتقص من الفريضة؟ ثم يكون سائر عمله على ذلك).
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي – وهذا لفظه، وقال: حسن غريب- وابن ماجه.
وله طرق عن أبي هريرة، أشهرها: رواية الحسن، وقد اختلفوا عليه في إسناده إلى أبي هريرة:
فقيل: عن الحسن، عن أنس بن حكيم، عن أبي هريرة.
وقيل: عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة.
وقيل غير ذلك.
ورواه حماد بن سلمة، عن الأزرق بن قيس، عن يحيى بن يعمر، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
خرجه النسائي.
وقيل – بهذا الإسناد-: عن يحيى بن يعمر، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
خرجه الإمام أحمد.
وهذا إسناد جيد.
وروي عن أبي هريرة من وجه آخر.
وروى حماد بن سلمة، عن داود بن أبي هند، عن زرارة بن أوفى، عن تميم الداري، عن النبي صلى الله عليه وسلم - بمعنى حديث أبي هريرة.
خرجه أبو داود وابن ماجه.
¥