تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

بل لقد تعدى ذلك إلى تلك الكلمة الدائرة على لسان كل طفل حين ينادي أباه, أو حين يحكي عن أبيه, أو حين يدعوه أبوه. إنها كلمة "بابا" التي تصلح عنوانا لرائعته ودرة ديوانه (قصيدة أب) التي يقول فيها مصورا فراق بنيه بعد أن ملؤوا عليه دنياه لعبا .. وشغبا .. وحبا .. وطربا:

أين الضجيج العذبُ والشغبُ؟ أين التدارسُ شابهُ اللعبُ؟

أين الطفولةُ في توقُّدِها؟ أين الدُّمى في الأرضِ والكُتُبُ؟

أين التشاكُسُ دونَما غَرَضٍ؟ أين التشاكي ما لهُ سَبَبُ؟

أين التباكي والتضاحُكُ، في وَقْتٍ معاً، والحُزنُ والطَرَبُ؟

أين التسابُقُ في مُجاورَتي شَغَفَاً، إذا أكلوا وإنْ شربوا؟

يَتَزاحمونَ على مُجالستِي والقُربِ مِنِّي حيثُما انقَلَبوا

يتوَجَّهونَ بسَوقِ فِطْرتِهم نَحْوي إذا رَهبوا وإن رَغبوا

فنشيدُهُم "بابا" إذا فَرحوا ووعيدُهُم "بابا" إذا غَضِبوا

وهتافُهُم "بابا" إذا ابتَعدُوا ونَجِيُّهُم "بابا" إذا اقتَرَبُوا

* * *

بالأمس كانوا مِلءَ منزِلِنا واليومَ - ويح اليوم - قدْ ذهبُوا

وكأنَّما الصمتُ الذي هَبَطتْ أثقالُه في الدارِ إذ غَرَبُوا

إغفاءةُ المَحْمُومِ هَدْأتُها فيها يَشيعُ الهَمُّ والتَّعَبُ

ذهَبُوا، أجَلْ ذهبوا، ومَسْكنُهم في القَلبِ، ما شطُّوا وما قَرُبوا

إني أراهم أينما التفتتْ نفسي وقد سكنوا، وقد وثبوا

وأحِسُّ في خَلَدي تلاعُبَهُمْ في الدَّار، ليس ينالهمْ نَصَب

وبَريقَ أعيُنِهم، إذا ظَفِروا ودُموعَ حُرقتِهم إذا غُلِبوا

في كلِّ رُكنٍ مِنهُمُ أثَرٌ وبكلِّ زاويةٍ لَهُم صَخَبُ

في النافِذات، زجاجَها حَطموا في الحائِط المَدْهونِ، قد ثَقَبُوا

في البابِ، قد كسروا مَزَالجَهُ، وعليه قد رَسَمُوا وقد كتَبُوا

في الصحنِ فيه بعضُ ما أكلُوا في عُلبةِ الحلوى التي نَهبُوا

في الشَطرِ مِن تُفاحة قضموا في فَضلة المَاءِ التي سَكَبُوا

إني أراهُمْ حَيثُما اتجَهَتْ عيني كأسرَاب القَطَا سَرَبوا

بالأمْسِ في "قرنايلٍٍ" نَزَلُوا واليوم قد ضمَّتْهمُ "حَلَبُ"

* * *

دمْعي الذي كتَّمْتُهُ جَلَدَاً لمَّا تباكَوا عندما ركِبوا

حتَّى إذا سارُوا وقد نَزَعُوا من أضلُعي قلباً بِهمْ يَجِبُ

ألفَيتُني كالطِفْل عاطِفَةً فإذا بِه كالغيثِ ينسكِبُ

قد يَعجَبُ العُذَّال من رجُلٍ يَبْكي، ولو لم أبكِ فالعَجَبُ

هَيهْاتَ ما كلُّ البُكا خَوَرٌ إنِّي وَبِي عَزْمُ الرجالِ، أبُ

ولا يكاد قارئ للشعر, أو مستمع له, أو مستمتع به, أو متذوق لمعانيه, أو مفتون بمبانيه, ينكر على شاعرنا استعماله لهذه الكلمة, وتكراره لها, على نحو ما قرأتَ .. وسمعتَ .. وتذوقتَ .. وفُتِنتَ! كيف لا وقد طار ذكر هذه القصيدة في الآفاق, ونالت من الشهرة والذيوع والانتشار ما جعل صاحبها نفسه يعجب من ذلك, حتى سماها (القصيدة المحظوظة)! بل لقد أعجب بها عملاق الأدب والنقد عباس محمود العقاد, على قلة ما يعجبه من شعر المعاصرين, وعدَّها من عيون الشعر الإنساني, وقال عنها في ندوة من ندوات منزله في مصر الجديدة في رمضان 1381هـ: "لو كان للأدب العالمي ديوان من جزء واحد لكانت هذه القصيدة في طليعته .. ! ". وترجمت إلى اللغة الفرنسية وقورنت بقصائد فيكتور هوغو في الأطفال, وعرضت في برامج تلفازية خاصة, ونشرت في الكثير من المجلات والكتب المدرسية. وكانت هذه القصيدة الدافع لإخراج الشاعر الأميري ديوان "أب".

ومع ذلك فقد أنكر قوم على شاعرنا استعماله كلمة "بابا" في هذه القصيدة, وذهبوا في ذلك كل مذهب.

إذ كيف يجوز لفصيح مثله أن يستعمل كلمة عامية؟؟

بل كيف يجوز لبليغ مثله أن يرطَنَ بكلمة أعجمية؟؟

بل كيف يجوز لشاعر كبير مثله أن يناغي بكلمة طفولية؟؟

كان من سوالف الأقضية أني حضرت حفلا بهيجاً .. ضمَّ ثلَّةً من العلماء والأعيان والأفاضل، وتقاطَرَ فيه الخطباء يتحفوننا بأفانينَ من القول والوعظ والإرشاد، وكان منهم خطيب فاضل أديب* استهلَّ كلمته وما أحسن ما استهلها بقصيدة الأميري هذه, وما إن وصل الخطيب إلى كلمة بابا في القصيدة حتى همس لي صاحبي بالجَنْبِ في أذني يسأل مستنكراً: أليست كلمة بابا أعجمية؟ فأشرت إليه أن لا، وتابعت الاستماع مستمتعاً بالقصيدة والخطبة، ثم بدا لي أن أنبِّه على أصالة هذه الكلمة في العربية فقمت شِبْهَ خطيب, وعلّقت على الأستاذ الأديب, مبيناً أن كلمة بابا عربية الأصل كريمة النِّجار

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير