[جنايات على العلم والمنهج (2) ... تحرير أقوال العلماء عبر النقل والعزو المرسل ....]
ـ[أبو فهر السلفي]ــــــــ[24 - 04 - 08, 09:55 م]ـ
جنايات على العلم والمنهج (2) ... تحرير أقوال العلماء عبر النقل والعزو المرسل والتقصير في طلب الرواية والإسنادِ في ذلك.
قال الإمام عبد الله بن المبارك: ((الإسناد من الدين، ولولا الإسنادُ لقال من شاء: ما شاء)).
وقال ابن المبارك أيضاً: ((مثل الذي يطلب أمر دينه بلا إسناد كمثل الذي يرتقي السطح بلا سلم)).
وقال: ((بيننا وبين القوم القوائم ـ يعني ـ الإسناد))
قال أبو عبد الله الحاكم: ((فلولا الإسناد وطلب هذه الطائفة له وكثرة مواظبتهم على حفظه لدرس منار الإسلام ولتمكن أهل الإلحاد والبدع فيه بوضع الأحاديث وقل الأسانيد فإن الأخبار إذا تعرت عن وجود الأسانيد فيها كانت بُتْراً)).
قلتُ: وشرف الإسناد وضرورة طلبه لا تختص بالمرفوعات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،بل هي كذلك في كل قول يُنسبُ إلى قائل، وما أعلم باباً من أبواب العلم تساهل أهل العلم في إسناده =غير أبواب الزهد والحكمة مع تأكيدهم على استحباب طلب الإسناد لها.
وهكذا بقيت الأمة أمة إسناد لا يرضى الواحد منهم أن ينسب مقالة لقائل إلا ويسوق سنده إلى هذا القائل،لا يُستثنى من ذلك إلا مجالس يثقل فيها سوق الإسناد لعلم الحاضرين به وكونه ليس موضع مشاححة ..
وبتناقص الزمان تتناقص الهمم ويتناقص العلم ويتناقص الحرص ويغلب طلب السهولة على الناس، وغلب على نفر من المتفقهة الذين لم يكن لهم بالحديث عناية=هجر الإسناد والاسترواح إلى النقل المُجرد العاري عن سوق الإسناد، وغلبت الثقة بالناقل على الناس فصاروا يتبعون الناقل في نقله من غير تثبت ولا روية ولا طلب إسناد والكل متلازم ..
حتى إذا هجم القرن الخامس الهجري أخذت الرواية في الخفوت حتى انزوت تماماً وأصبحت تُساق لمرادات أُخر غير مراد توثيق نسبة الكلام إلى قائله ... ولولا طبقة البيهقي وابن عبد البر لأوشكت كتب الفقهاء المرسلة غير المسندة أن تكون هي السمة العامة لهذا القرن ...
ولله در القائل: والأسانيد متى خفيت اختلط صادق الأنباء بكذبها، وصحيح الأخبار بضعيفها، والتبس الحق بالباطل، فَصُوِّرَ في الأذهان مالم يكن، ومُثل في العقول مالم يقع، وأخطأ اللاحق سنة السابق، وضل الآخر سبيل الأول، وتشعب الرأي، وافترق النظر، وكثرت المذاهب، فشاع الخلاف، وعمَّت الفرقة، لايذهل عن ذلك عاقل، ولا يرتاب فيه عالم.
فإلى القرن الخامس كنا قد انتهينا إذاً وفيه استهلت صارخة نكبات التقليد .. فكان العلم عند كثير من حملة العلم يومها =نقل قول إمام متقدم، ثم حسبه حكاية قوله، فصار قول المتكلم حجة المتأخر،ورأي السابق دليل اللاحق، ومذهب الأول برهانُ الآخر ... وحتى الحوادث والنوازل التي لا يُعرف للإمام السابق فيها قول ماكان حكمها يُطلب من الأدلة وإنما كان يُخرَّج تخريجاً على أقوال الإمام وما يُظن أنه أصوله .. وقُرِنَ ذلك بتعظيم الأئمة الأربعة حتى أوشك البعض على القول أنهم خُلَقوا خلقاً غير خلق الناس، وأنهم لا يُدانيهم غيرهم فضلاً وعلماً وعملاً ..
وإلى هذه الطبقة كان الإسناد موجوداً في بعض الكتب المتداولة وإن هُجر في مجالس الدرس والتعليم ...
حتى استهل القرن السادس ومعه بلية أخرى .. فقد ضعفت الهمم، وخمدت العزائم، فصار الناس إلى طلب مختصرات يختصرون فيها الكتب التي وصلتهم مسندة متصلة .. فصار الناس إلى حذف الأسانيد، ثم عم هجرها فكأنه وباء سرى في الناس حتى سرى إلى أعيان الحفاظ وأعلام المحدثين ... فلما شاع ذلك وكثر ألف فلم يستغرب وقبل فلم يستنكر، وصار من أراد التصنيف جمع ما عنده من كتب المتقدمين فجردها من الإسناد، وولف بينها وكتب مقدمة صرَّح فيها بمصادره، فما هو إلا أن تحذف منها أسانيدها،حتى تتشابه كلها، فلا يتميز صدقها من كذبها، ولا حقها من باطلها .. وباتت كلها في الظاهر سواء، فقد خفيت أسانيدها وجهلت أصولها ... ولما كانت تلك طريقة سهلة .. فقد كثرت التصانيف،وفاضت التآليف، عارية عن الإسناد،مبتوتة الصلة بأصولها المأخوذة عنها ... وثقل الأمر على النُساخ .. فأَنسيت كتب كتباً .. وشغلت تصانيف محل تصانيف ... وصار المختصر المعتصر المجرد هذا يستبدل بالأصل المطول في مجلدات .. فهو أرخص ثمناً وأخف حملاً وأقل مؤنة .. وحتى صار عالي الهمة من أهل العلم
¥