[دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب (الحلقة الأولى)]
ـ[أبو موسى الأردني]ــــــــ[27 - 07 - 08, 09:52 ص]ـ
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده،
فهذه نقول مباركة من كتاب مبارك ذبَّ مصنفه -رحمه الله تعالى- عن كتاب الله العظيم وبين عدم التعارض بين آياته بما آتاه الله تعالى من علم وملكة في التفسير - تفسير القرآن بالقرآن - ألا وهو الإمام المفسر السلفي محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله ورفع درجته آمين.
وكتابه هذا الذي ننقل منه هو المسمى (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)، كتاب نافع ماتع أرجو الله أن ينفع الجميع بما فيه، هذا مع أن المجال مفتوح للمناقشة والأسئلة التي قد يجيب عليها بعض طلاب العلم في هذا الملتقى لتتجلى الأمور التي قد تكون مبهمة بالنسبة للبعض، وسوف يكون الكتاب على شكل حلقات؛ تتناول كل حلقة آية أو ثنتين حسب طول الموضع وقصره.
والله من وراء القصد وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أبو موسى الأردني
-غفر الله له-
نبدأ على بركة الله:
الحمد لله رب العلمين والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم النبيين وأشرف المرسلين وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
الحمد لله الذي ختم الرسل بهذا النبي الكريم عليه من الله الصلاة والتسليم, كما ختم الكتب السماوية بهذا القرآن العظيم, وهدى الناس بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم, فأخباره كلها صدق, وأحكامه كلها عدل, وبعضه يشهد بصدق بعض ولا ينافيه, لأن آياته فصلت من لدن حكيم خبير. {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}.
أما بعد فإن مقيد هذه الحروف, عفا الله عنه, أراد أن يبين في هذه الرسالة ما تيسر من أوجه الجمع بين الآيات التي يتوهم فيها التعارض في القرآن العظيم, مرتبا لها بحسب ترتيب السور, يذكر الجمع بين الآيتين غالبا في محل الأولى منهما وربما يذكر الجمع عند محل الأخيرة وربما يكتفي بذكر الجمع عند الأولى وربما يحيل عليه عند محل الأخيرة ولاسيما إذا كانت السورة ليس فيها مما يتوهم تعارضه إلا تلك الآية فإنه لا يترك ذكرها والإحالة على الجمع المتقدم, وسميته:
(دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)
فنقول وبالله نستعين وهو حسبنا ونعم الوكيل راجين من الله الكريم أن يجعل نيتنا صالحة وعملنا كله خالصا لوجهه الكريم, إنه قريب مجيب رحيم.
(سورة البقرة)
· قوله تعالى: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} أشار الله تعالى إلى القرآن في هذه الآية إشارة البعيد وقد أشار له في آيات أخر إشارة القريب كقوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} وكقوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ} الآية وكقوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ} , وكقوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} , إلى غير ذلك من الآيات, وللجمع بين هذه الآيات أوجه: -الأول-ما حرره بعض علماء البلاغة من أن وجه الإشارة إليه بإشارة الحاضر القريب أن هذا القرآن قريب حاضر في الأسماع والألسنة والقلوب, ووجه الإشارة إليه بإشارة البعيد هو بعد مكانته ومنزلته عن مشابهة كلام الخلق وعما يزعمه الكفار من أنه سحر أو شعر أو كهانة أو أساطير الأولين.
الوجه الثاني: هو ما اختاره ابن جرير الطبري في تفسيره من أن ذلك إشارة إلى ما تضمنه قوله: {الم} وأنه إشارة إليه إشارة البعيد لأن الكلام المشار إليه منقض ومعناه في الحقيقة القرب لقرب انقضائه وضرب له مثلا بالرجل يحدث الرجل فيقول له مرة: والله إن ذلك لكما قلت, ومرة يقول: والله إن هذا لكما قلت, فإشارة البعيد نظرا إلى أن الكلام مضى وانقضى وإشارة القريب نظرا إلى قرب انقضائه.
الوجه الثالث: أن العرب ربما أشارت إلى القريب إشارة البعيد فتكون الآية على أسلوب من أساليب اللغة العربية ونظيره قول خفاف ابن ندبة السلمي لما قتل مالك بن حرملة الفزارى:
فعمدا على عيني تيممت مالكا فإن تك خيلي قد أصيب صميمها
تأمل خفافا إنني أنا ذلكا أقول له والرمح يأطر متنه
يعني أنا هذا وهذا القول الأخير حكاه البخاري عن معمر بن المثنى أبي عبيدة قاله ابن كثير. وعلى كل حال فعامة المفسرين على أن ذلك الكتاب بمعنى هذا الكتاب. قوله تعالى: {لا رَيْبَ فِيهِ} هذه نكرة في سياق النفي ركبت مع لا؛ فبنيت على الفتح. والنكرة إذا كانت كذلك فهي نص في العموم كما تقرر في علم الأصول, و {لا} هذه التي هي نص في العموم هي المعروفة عند النحويين بـ (لا) التي لنفى الجنس, أما (لا) العاملة عمل ليس فهي ظاهرة في العموم لا نص فيه, وعليه فالآية نص في نفي كل فرد من أفراد الريب عن هذا القرآن العظيم, وقد جاء في آيات أخر ما يدل على وجود الريب فيه لبعض من الناس كالكفار الشاكِّين كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} , وكقوله: {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} , وكقوله: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ}. ووجه الجمع في ذلك أن القرآن بالغ من وضوح الأدلة وظهور المعجزة ما ينفي تطرق أي ريب إليه, وريب الكفار فيه إنما هو لعمى بصائرهم, كما بينه بقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} فصرح بأن من لا يعلم أنه الحق أن ذلك إنما جاءه من قِبل عَماه ومعلوم أن عدم رؤية الأعمى للشمس لا ينافي كونها لا ريب فيها لظهورها:
فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر إذا لم يكن للمرء عين صحيحة
وأجاب بعض العلماء بأن قوله لا ريب فيه خبر أريد به الإنشاء أي لا ترتابوا فيه وعليه فلا إشكال.
يتبع الحلقة الثانية