[هل ثمة تعارض بين خلق الجان من نار وبين قوله تعالى (وجعلنا من الماء كل شيء حي)؟]
ـ[بندر البليهي]ــــــــ[14 - 07 - 08, 12:03 ص]ـ
السؤال: في سؤال يثيره بعض المسيحيين في المنتديات، وهو الآية القرآنية (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) الأنبياء/30، والآية الأخرى (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ) الرحمن/15، فهل هذا تناقض؟
الجواب:
الحمد لِلَّه
أولا:
أخبرنا الله في كتابه الكريم عن أصل خلق الجن، فقال تعالى: (وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ) الحجر/27، وقال تعالى: (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ) الرحمن/15
وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خُلِقَتْ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ) رواه مسلم (2996)
ثانيا:
يقول سبحانه وتعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) الأنبياء/30.
ولفهم معنى الآية الكريمة فهما صحيحا، وللوقوف على ما تقتضيه اللغة العربية في ذلك، لا بد من بيان بعض الأمور:
1 - التأمل في سياق الآيات من ضرورات الفهم الصحيح، ويبدو للقارئ أن سياق هذه الآية في معرض إفحام المشركين بالحجج والبراهين، والرد على بعض ما يعتقدونه من الباطل.
يقول ابن كثير في "تفسير القرآن العظيم" (3/ 238):
" يقول تعالى منبها على قدرته التامة وسلطانه العظيم في خلقه الأشياء وقهره لجميع المخلوقات فقال: (أولم ير الذين كفروا) أي: الجاحدون لإلهيته، العابدون معه غيره، ألم يعلموا أن الله هو المستقل بالخلق، المستبد بالتدبير، فكيف يليق أن يعبد معه غيره، أو يشرك به ما سواه، ألم يروا (أن السموات والأرض كانتا رتقا) أي: كان الجميع متصلا بعضه ببعض، متلاصق متراكم بعضه فوق بعض في ابتداء الأمر، ففتق هذه من هذه، فجعل السموات سبعا، والأرض سبعا، وفصل بين السماء الدنيا والأرض بالهواء، فأمطرت السماء وأنبتت الأرض، ولهذا قال: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤمِنُُونَ) أي: وهم يشاهدون المخلوقات تحدث شيئا فشيئا عيانا، وذلك كله دليل على وجود الصانع الفاعل المختار القادر على ما يشاء " انتهى.
إذا فمناسبة سياق المحاججة تقتضي الاستشهاد بآيات ظاهرة يشاهدها المخاطبون ويعايشونها، فكان قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) منطلقا من واقعهم الذي يرونه: من حاجتهم وحاجة جميع الحيوانات إلى الماء، أو من تخلقهم وتخلق الحيوانات من ماء التناسل. وليس في هذا السياق تعرض ـ أصلا ـ لعالم الغيب من الملائكة أو الجن أو غيرهم من خلق الله؛ لأن المحاججة إنما تكون بعالم الشهادة، حتى تكون الحجة أقوى وأبين، وأما عالم الغيب فقد لا يؤمن به المخاطب، فضلا عن أن يعرف كيفية خلقه وما هي مكوناته، وعلى هذا يكون الجن والملائكة لم يدخلوا في سياق العموم ابتداء.
2 - صيغ العموم في اللغة العربية ليست دائما على إطلاق عمومها، فقد تكون مخصوصة، بل قال أهل العلم: إن أكثر عمومات القرآن مخصوصة.
وقد جاءت صيغة العموم (كل) في بعض الآيات، ولم تدل على العموم المطلق، وذلك في قوله تعالى عن الريح التي أرسلها لإهلاك قوم عاد: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) الأحقاف/25، وقوله تعالى عن ملكة سبأ: (إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ) النمل/23، ومن المعلوم أن الريح لم تدمر السماء ولا حتى المساكن، وأن ملكة سبأ لم تؤت ما أوتيه النبي سليمان عليه السلام.
وعلى هذا ينبغي فهم صيغ العموم في القرآن، لأنه نزل بلسان عربي مبين، والعرب تطلق صيغ العموم كثيرا، وهي تعلم أن ثمة بعض المخصوصات.
¥