فهؤلاء الذين شغبوا وأثاروا كل هذه الضجة حول الحديث، قد شككوا أصلاً في عدالة الصحابة، وأسقطوا الاحتجاج بـ أبي هريرة ورواياته، ولم يجعلوا أي قيمة علمية لأحاديث الصحيحين ورواتهما، مما فسح المجال أمامهم ليعبثوا كيف شاؤوا، ولينتقدوا ما أرادوا من الأحاديث التي لا تروق لأهوائهم وأمزجتهم، حتى ولو لم يتكلم فيها أحدٌ ممن يعتد به من أهل هذا الفن.
فالموقف من هذا الحديث إذاً لا يخرج عما قيل سابقاً، وقد سبق الكلام في مواضيع مستقله في هذا المحور عمَّا يتعلق بعدالة الصحابة رضي الله عنهم، و أبي هريرة، وأحاديث الصحيحين، وسنخصص الحديث في هذا الموضوع للرد على الشبهات المثارة حول هذا الحديث على وجه الخصوص.
وقد تصدى جمع من أئمة الإسلام للرد على كل من طعن في هذا الحديث بالتكذيب، ودحضوا شبهاتهم، وكشفوا عوارهم، وأجابوا عن الاعتراضات والإشكالات بأجوبة وتوجيهات فيها مقنع وكفاية لكل طالب للحق والهدى، ومن هؤلاء الإمام ابن خزيمة، و ابن حبان، و الخطابي و ابن قتيبة، ونقلها عنهم شرَّاح الحديث كالحافظ ابن حجر والإمام النووي وغيرهم، بما يرد عن الحديث كل شبهة، وينفي عنه أي تهمة.
قال الإمام ابن حبان رحمه الله في معرض جوابه عن الحديث: " إن الله جل وعلا بعث رسوله الله - صلى الله عليه وسلم- معلماً لخلقه، فأنزله موضع الإبانة عن مراده، فبلغ - صلى الله عليه وسلم- رسالته وبين عن آياته بألفاظ مجملة ومفسرة، عقلها عنه أصحابه أو بعضهم، وهذا الخبر من الأخبار التي يدرك معناها من لم يحرم التوفيق لإصابة الحق. . . ثم أخذ في دفع ما قيل في الحديث.
خاتماً كلامه بالتشنيع على من يزعمون أن أصحاب الحديث حمالة الحطب، ورعاة الليل يجمعون ما لا ينتفعون به، ويروون ما لا يؤجرون عليه، ويقولون بما يبطله الإسلام، جهلاً منه لمعاني الأخبار، وترك التفقه في الآثار، معتمداً منه على رأيه المنكوس، وقياسه المعكوس " أهـ.
وقال ابن خزيمة: " وهذا اعتراض من أعمى الله بصيرته، ومعنى الحديث صحيح. . . . . " إلخ.
هل الحديث من الإسرائيليات
أما كون رائحة الإسرائيليات تفوح منه لأنه موقوف على أبي هريرة، فهي فرية جاء بها "أبو رية " ورددها غيره، والحديث وإن كان قد أورده البخاري و مسلم موقوفاً على أبي هريرة من طريق طاوس، إلا أنه روي أيضاً مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- في الصحيح من طريق همام بن منبه، قال الحافظ في الفتح (6/ 441): " وهذا هو المشهور عن عبد الرزاق، وقد رفع محمد بن يحي رواية طاوس أيضاً أخرجه الإسماعيلي " أهـ.
فالحديث مرفوع لا محالة، أما في رواية همام بن منبه فالأمر ظاهر، وأما رواية طاوس فلها حكم الرفع لأنها مما لا مجال فيه للرأي، وينفي احتمال كونها من الإسرائيليات، ورودها مرفوعة صراحة من الطريق الأخرى التي ذكرها الحافظ.
ولو جاز الحكم بالرائحة - كما يقول الشيخ المعلمي رحمه الله- لما ساغ أدنى تشكك في حكم البخاري لأنه أعرف الناس برائحة الحديث النبوي، وبالنسبة إليه يكون الطاعن فيه أخشم فاقد الشم أو فاسده.
إشكالات حول المتن
وأما الزعم بأن في متنه إشكالات تثير الريبة، فإنما جاء من الفهم السيء، والصورة الخاطئة التي رسمها أصحابها في أذهانهم، فأوردوا بموجبها كل هذه الإشكالات ضاربين عرض الحائط بكلام أهل العلم وتوجيهات أئمة هذا الشأن، وذلك لأن استشكالاتهم كلها مبنية على أساس أن موسى عليه السلام قد عرف ملك الموت، وأنه جاء لقبض روحه، ومع ذلك دافعه ونازعه واعتدى عليه رافضاً الاستجابة لأمر الله.
وهذا الكلام مردود جملة وتفصيلاً لأمور:
أولاً: أن الله عز وجل إنما أرسل ملك الموت إلى موسى في المرة الأولى ابتلاء واختباراً، ولم يرسله إليه وهو يريد قبض روحه حينئذ، وأمره أن يقول له: " أجب ربك "، أمر ابتلاء لا أمراً يريد إمضاءه، كما أمر سبحانه خليله إبراهيم بذبح ولده أمر اختبار وابتلاء، ولم يرد إمضاء ذلك، فلما عزم على ذبحه وتله للجبين فداه بالذبح العظيم.
ولو أراد سبحانه أن يقبض روح موسى عليه الصلاة والسلام حين لطم الملك، لكان ما أراد.
¥