[أحكام الهجرة]
ـ[محمود غنام المرداوي]ــــــــ[06 - 07 - 09, 04:52 م]ـ
فضل الهجرة و بيان أحكامها
اعلم أن الهجرة هي الخروج من بلد يغلب فيه حكم الكفر و البدع المضلة كالرفض و الاعتزال، الى بلد يغلب فيه حكم الاسلام و السنة، و حكمها الوجوب على قادر عليها عاجز عن اظهار دينه ببلد الكفر أو البدع المضلة.
فعلم أن لوجوب الهجرة شرطين:
الأول: أن لا يكون قادر على اظهار دينه ببلد الكفر.
ألثاني: أن يكون قادرا على الهجرة متمكنا منها كما هو منطوق الآية الكريمة، فان كان قادرا على اظهار دينه ببلد الكفر فالهجرة مستحبة في حقه استحبابا مؤكدا، لقوله عليه السلام (أنا بريء من مسلم بين مشركين لا تترآء ناراهما)، رواه أبو داود و كذا النسائي في السنن، و معنى لا تترآء نارهما: أن المسلم لا يحل له الاقامة بين المشركين، بحيث يكون بموضع يرى نارهم اذا أوقدت، و يرون ناره و هو محمول على من عجز عن اظهار دينه ببلد الكفر، و كان قادرا على الهجرة متمكنا منها، فحينئذ تجب الهجرة عليه كما تقدم.
وأما الهجرة من بين أهل المعاصي و الفسوق و لو أظهرو ذالك فلا تجب على المسلم، و لو قادرا عليها، بل تستحب لقوله صلى الله عليه و سلم (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فان لم يستطع فبلسانه، فان لم يستطع فبقلبه و ذالك أضعف الايمان)، و تغير المنكر بقلبه (كراهته له و لفاعله عند عدم الاستطاعة على التغير باليد و اللسان) و هذا ظاهر لا يخفى و الله أعلم.
حكم الهجرة من بين أهل المعاصي
و أما الهجرة من بين أهل المعاصي و الفسوق و لو أظهرو ذالك فلا تجب على المسلم و لو قادرا عليها، بل تستحب لقوله صلى الله عله و سلم (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فان لم يستطع فبلسانه، فان لم يستطع فبقلبه و ذالك أضعف الايمان).
تغير المنكر بقلبه كراهته له و لفاعله، عند عدم الاستطاعة على التغير باليد و اللسان، و هذا ظاهر لا يخفى و الله أعلم.
أما فضل الهجرة فيدل عليه قوله تعالى (و من يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة و من يخرج من بيته مهاجرا الى الله و رسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله) الآيه.
و هذه الآيه صريحة الدلالة على فضل الهجرة، حيث كانت لله و رسوله خالصة من شوائب الرياء و حظوظ النفس، و قال صلى الله عليه و سلم (من فر بدينه من أرض الى أرض و ان كان ما بينهما شبرا استوجب الجنة، و كان رفيق أبيه ابراهيم و نبيه محمد صلى الله عليه و سلم) ذكره الخطيب في تفسيره يغير سند، و حديث مبتدأ (انما الأعمال بالنيات و انما لكل امرؤ من نوى، فمن هجرته الى الله و رسوله فهجرته الى الله و رسوله، و من كانت هجرته الى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته الى ما هاجر اليه).
صريح خبرالدلالة على فضل الهجرة، حيث كانت خالصة لله و رسوله، لأن معنى الحديث من كانت هجرته الى الله و رسوله،فهجرته الى الله و رسوله (أي هي صحيحة مقبولة مثاب عليها لأنها لله و رسوله)، و في ذالك من التفخيم لها ما لا يخفى و الله أعلم.
و قال صلى الله عليه و سلم: (لولا الهجرة لكنت أمرا من الأنصار) و في ذالك تفخيم عظيم لشأن الهجرة كما لا يخفى، و أول من هاجر لله سيدنا ابراهيم الخليل على نبينا و عليه أفضل الصلاة و التسليم، و ذالك أنه حين دعى قومه الى عبادة الله وحده، و نهاهم أباه عن عبادة الاصنام، تسلطوا عليه بالأذى كما حكى الله عز وجل ذالك عنه في القرآن الكريم، قال تعالى: (فآمن له لوط و قال اني مهاجر الى ربي انه هو العزيز الحكيم)، قال المفسرون: (كانت هجرة ابراهيم من كوش و هي قرية من سواد العجم الى حران، ثم من حران الى الأرض المقدسه، فكان له هجرتان)، ثم لا يخفى أن هذه الهجرة كانت له بعد قصة النار التى أوقدت له و كانت نارا عظيمه، لم يمكن لهم رميه فيها الا مغلولا في المنجنيق، وفي تلك الحاله تعرض له جبريل عليه الصلاة و السلام، و قال له (هل لك من حاجة) فقال أما اليك فلا، فقال له سل ربك، فقال حسبي من سؤالى، علمه بحالى، فجعل الله ببركة قوله ذالك النار روضة و لم يحترق منه الا وثاقه، و اطلع عليه نمرو من الصرح الذي بناه و قال اني اليك يا ابراهيم العظيم، و اني مقرب اليه قربانا قبل ذبح أربعة آلاف بقرة، و كف عن ابراهيم و كان اذ ذاك ابن ستة عشر سنة، ثم ان انقلاب النار هواء طيبة ليس ببدع أي ليس بمستحيل عقلا غير أنه هكذا على خلاف معتاد، فهو اذا من معجزاته كانقلاب العصى بموسى عليه السلام حية تسعى تبتلع الالوف من الحبال و العصي، و كأحياء قتيل لبني اسرائيل معجزة لموسي عليه السلام، فان فيه انقلابا كان ميتا فصار حيا، و هو انتقال من حالة الى حالة، و ذالك كله من الخوارق العجيبة و لا يستبعد حصولها في زمن النبوة، و قيل كانت النار لحالها أي على هيئتها المحرقة، لكن الله تعالى دفع عن ابراهيم أذاها فقط مع بقائها على حالتها الأولى، و نظير ذالك ما يرى في السمندل و هو طير يرمي نفسه في النار قلا تؤذيه، فعلى القول الأول تكون النار قد انقلبت عن حالتها الأولى من الاحراق الى البرودة، و على القول الثاني لم تتغير النار عن طبعها لكن الله سلب منها الأذى فقط، قال البيضاوي: (و يشعر بذالك قوله على ابراهيم فانه يفهم منه أن ذالك خصوصية لابراهيم عليه السلام، ليكون معجزة له)، و لذالك قال تعالى: (و أرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين) أي أخسر من كل خاسر، حيث عاد سعيهم في اهلالكهم له برهانا قاطعا على أنهم على الباطل و ابراهيم عليه السلام على الحق، و لما هاجر ابراهيم عليه السلام الى الله عز وجل أبدله الله تعالى بما لا يقدر عليه غيره من سعة الرزق و رغد العيش و كثرة الولد و الحزم في الشيخوخة، و كثرة النسل و الثناء الحسن و المحبة من جميع الخلق، و صار معروفا بشيخ المرسلين، و قدوة الموحدين، بعد أن كان خامل الذكر لا مال له و لا ولد، فكل ذالك ببركة صدقه في هجرته.
منقول من كتاب الرحلة الحجازية للعلامة عبدالله بن صوفان القدومي النابلسي رحمه الله تعالى
¥