وقوله جل ذكره وتقدست أسماؤه: [إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً] {النساء، الآية:48}.
وفيما يلي نذكر عدداً من الآيات التي تجمع بين العدل والفضل، أي أنها تشترط العدل ثم تندب إلى الفضل، وهذا قد ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح، فقال في جوابٍ له على أحد الأسئلة: {والجواب على هذا من وجوه:
أحدها أن يقال بل الشرائع ثلاثة؛ شريعة عدل فقط، وشريعة فضل فقط، وشريعة تجمع العدل والفضل، فتوجب العدل وتندب إلى الفضل، وهذه أكمل الشرائع الثلاث وهي شريعة القرآن الذي جمع فيه بين العدل والفضل، مع أنا لا ننكر أن يكون موسى عليه السلام أوجب العدل وندب إلى الفضل، وكذلك المسيح عليه السلام أيضاً أوجب العدل وندب إلى الفضل.
وأمّا من يقول إن المسيح أوجب الفضل وحرّم على كل مظلوم أن يقتص من ظالمه أو أن موسى لم يندب إلى الإحسان فهذا فيه غضاضة بشريعة المرسلين، لكن قد يقال إن ذكر العدل في التوراة أكثر وذكر الفضل في الإنجيل أكثر والقرآن جمع بينهما على غاية الكمال.
والقرآن بيّن أن السعداء أهل الجنة وهم أولياء الله نوعان؛ أبرار مقتصدون ومقربون سابقون، فالدرجة الأولى تحصل بالعدل وهي أداء الواجبات وترك المحرمات، والثانية لا تحصل إلّا بالفضل وهو أداء الواجبات والمستحبات وترك المحرمات والمكروهات. فالشريعة الكاملة تجمع العدل والفضل كقوله تعالى: [وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ] فهذا عدل واجب من خرج عنه استحق العقوبة في الدنيا والآخرة، ثم قال [وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ] فهذا فضل مستحب مندوب إليه من فعله أثابه الله ورفع درجته ومن تركه لم يعاقبه.
وقال تعالى: [وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ] فهذا عدل، ثم قال تعالى [إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا] فهذا فضل.
وقال تعالى: [وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ] فهذا عدل.
ثم قال: [فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ] فهذا فضل.
وقال تعالى: [وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ] فهذا عدل.
ثم قال: [إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] فهذا فضل.
وقال تعالى: [وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ] فهذا عدل.
ثم قال: [وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ] فهذا فضل.
وقال تعالى: [وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا] فهذا عدل.
ثم قال: [فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ] فهذا فضل.
وهو سبحانه دائماً يحرّم الظلم ويوجب العدل ويندب إلى الفضل كما في آخر سورة البقرة لما ذكر حكم الأموال والناس فيها إما محسنٌ وإما عادلٌ وإما ظالمٌ، فالمحسن المتصدق والعادل المعاوض كالبايع، والظالم كالمرابي، فبدأ بالإحسان والصدقة فذكر ذلك ورغّب فيه، فقال في سورة البقرة الآيات: [مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ]} () انتهى كلامه رحمه الله.
ويذكر الإمام المحاسبي في آداب النفوس كلاماً يذكر فيه أن لزوم العدل والانشغال عن الفضل صاحبه معذور، أمّا من انشغل بالفضل عن العدل فهو متبعٌ لهواه، وهذا نص ما قاله:
{يروى عن بعض الحكماء أنه قال: طريق الآخرة واحد والناس فيه صنفان فصنفٌ أهل العدل وصنف أهل الفصل. والعدل عدلان؛ عدل ظاهر فيما بينك وبين الناس، وعدل باطن فيما بينك وبين الله. وطريق العدل طريق الاستقامة وطريق الفضل طريق طلب الزيادة.
والذي على الناس لزوم العمل به طريق الاستقامة وليس عليهم لزوم طريق الفضل.
والصبر والورع مع العدل وهما واجبان، والزهد والرضى مع الفضل ليسا بواجبين، والإنصاف مع العدل، والإحسان مع الفضل.
ومن شغله العدل عن الفضل فمعذور، ومن شغله الفضل عن العدل فهو مخدوع متبع لهوى نفسه، وعلى الإنسان معرفة العدل وليس عليه معرفة الفضل إلّا تبرعاً، وهكذا كل عملٍ لا يجب على العبد فعله لا يجب عليه علمه} ().
هذا ما بان لنا من أدلة والله الموفق للصواب
10 – رجب – 1430