- وقال المَرُّوذي: (قلت لأبي عبدالله: إن بعض المحدِّثين قال لي: أبوعبدالله لم يزهد في الدراهم وحدها، قد زهد في الناس! فقال: ومن أنا حتى أزهد في الناس؟ الناس يريدون أن يزهدوا فيَّ) [11].
- وقال أيضاً: (سمعت أبا عبدالله أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - وذكر أخلاق الورعين، فقال: أسأل الله أن لا يمقتنا، أين نحن من هؤلاء؟) [12].
- وقال أيضاً: (قلت لأبي عبدالله: ما أكثر الداعين لك! فتغرغرت عيناه، وقال: أخاف أن يكون هذا استدراجاً) [13].
وقال محمد بن موسى: (رأيت أبا عبد الله؛ يعني الإمام أحمد وقد قال له خراساني: الحمد لله الذي رأيتك، قال: اقعد، أي شئ ذا؟ من أنا؟ وعن رجل قال: رأيت أثر الغم في وجه أبي عبد الله، وقد أثنى عليه شخص، وقيل له: جزاك الله عن الإسلام خيراً! قال: بل جزى الله الإسلام عني خيراً! من أنا وما أنا؟) [14].
وقال إسماعيل بن إسحاق الثقفي: (قلت لأبي عبدالله أوَّلَ ما رأيته: ائذن لي أُقبِّل رأسك، فقال: لم أبلغ أنا ذلك) [15].
وكان ابن القيم يقول:
بُنَيُّ أبي بكرٍ كثيرٌ ذُنُوبُهُ
فَلَيْسَ عَلَى مَنْ نَالَ مِنْ عِرْضِهِ إِثْمُ
بُنَيُّ أبي بكر جَهُولٌ بِنَفْسِهِ
جَهُولٌ بِأَمْرِ الله، أَنَّى له العِلْمُ
بُنَيُّ أبي بكر غدا مُتَصَدِّرَاً
يُعَلِّمُ عِلْمَاً وَهُو لَيْسَ ُلهُ عِلْمُ
بُنَيُّ أبي بكر غَدَا مُتَمَنِّيَاً
وِصَالَ الْمَعَالِي وَالذُّنُوبُ له هَمُّ [16]
وقد حدثني فضيلة شيخنا العالم العابد عبد العزيز العقل - متَّعه الله بالصحة والعافية?- أنه لمَّا كان مدرساً في جامعة الإمام محمد بن سعود (فرع القصيم) شرح لطلابه حديث: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) [17].
قال الشيخ: فوقع في نفسي سؤالٌ، هو: مَنْ مجدد هذا العصر؟
واستبهم عليَّ تعيين المجَدِّد، وانصرفت من الكلية، وأنا أُعْمِل رأيي في هذا السؤال، فلم أجزم فيه بشيء، فنمت بعد الظهر، فرأيت في المنام سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز جالساً متربعاً مستقبل القبلة، فأقبلت عليه؛ فعانقته وقبَّلته وإذا بي أسمع صوتاً لا أرى صاحبه يقول: هذا مجدد هذا العصر.
قال الشيخ عبد العزيز العقل: فاستيقظت من النوم مسروراً! وبعد أيام ذهبت إلى الرياض، وزرت الشيخ ابن باز، وبشرته بالرؤيا التي رأيت، فتشاغل عنها ولم يحفل بها.
ثالثاً: أن يعلم العبد أنه متى أُعجب بنفسه فثَمَّ الخذلان، وضياع الشأن، وهذه حوادث تنْبئ بهذا:
الأولى: ذكرها الماوردي (أحد علماء الشافعية) عن نفسه، فقال: (ومما أنذرك به من حالي؛ أنني صنفت في البيوع كتاباً جمعت فيه ما استطعت من كُتُب الناس، وأجهدت فيه نفسي، وكددت فيه خاطري، حتى إذا تهذب واستكمل، وكدت أُعجب به، وتصورت أنني أشد الناس اضطلاعاً بعلمه، حضرني وأنا في مجلسي أعرابيان؛ فسألاني عن بيعٍ عقداه في البادية، على شروط تضمنت أربع مسائل، لم أعرف لواحدة منها جواباً، فأطرقت مُنْكراً، وبحالي مُفَكِّراً، فقالا: ما عندك فيما سألناك جواب، وأنت زعيم هذه الجماعة؟ فقلت: لا. فقالا: واهاً لك! وانصرفا، ثم أتيا من يتقدمه في العلم كثير من أصحابي، فسألاه، فأجابهما مسرعاً بما أقنعهما، وانصرفا عنه راضيين بجوابه، حامدَين لعلمه، فبقيت مرتبكاً، وبحالهما وحالي معتبراً، فكان ذلك زاجر نصيحة، ونذير عظة؛ تَذلَّلَ بهما قيادُ النفس، وانخفض لهما جناحُ العجب، توفيقاً مُنِحتُه، ورشداً أُوتيتُه ... ) [18] إلخ ما قال رحمه الله!
الثانية: ذكرها الجاحظ، فقال: (كان لنا بالبَصرة قاضٍ يقال له: عبدُ?الله بنُ سوَّار، لم يَرَ النَّاسُ حاكماً قطُّ، ولا زِمِّيتاً [19]، ولا رَكيناً [20]، ولا وقوراً حليماً؛ ضَبطَ من نفسه، وملَك من حركته مثلَ الذي ضبَط وملَك، كان يصلِّي الغداةَ، فيأْتي مجلسَه، فيحتبي ولا يتَّكئ، فلا يزالُ منتصباً، ولا يتحرَّك له عضوٌ، ولا يلتفت، ولا يحلُّ حَبْوَته، ولا يحوِّل رِجلاً عن رِجل، ولا يَعتمد على أحد شِقَّيه، حَتَّى كأنّه بناءٌ مبنيٌّ، أو صخرةٌ منصوبة؛ فلا يزال كذلك حتى يقوم إلى صلاة الظهر، ثم يعودُ إلى مجلسهِ؛ فلا يزال كذلك حتى يقوم إلى العصر، ثمَّ يرجع لمجلسه؛ فلا يزال كذلك حتى يقوم لصلاة المغرب، ثمَّ رُبما عاد إلى محَلِّه، بل كثيراً ما كان يكون ذلك، إذا بقي عليه من قراءة العهود والشُّروط والوثائق،
¥