والحفظ له وسائل كثيرة معلومة في كتب الطلب، وله كذلك طرق متعددة من أهمها: تكرار المحفوظ ومداومة النظر فيه، قال ابن الجوزي ("بيان طريق إحكام المحفوظ": الطريق في إحكامه كثرة الإعادة، والناس يتفاوتون في ذلك، فمنهم من يثبت معه المحفوظ مع قلة التكرار. ومنهم من لا يحفظ إلا بعد التكرار الكثير. فينبغي للإنسان أن يعيد بعد الحفظ ليثبت معه المحفوظ).
وقال أيضا: (ينبغي للعاقل أن يكون جل زمانه للإعادة، خصوصاً الصبي والشاب، فإنه يستقر المحفوظ عندهما استقرارًا لا يزول.
وسيندم من لم يحفظ ندم الكُسَعي وقت الحاجة إلى النظر والفتوى، وفي الحفظ نكتة ينبغي أن تلحلظ، وهو أن الفقيه يحفظ الدرس ويعيده، ثم يتركه فينساه فيحتاج إلى زمان آخر لفظه، فينبغي أن يحكم الحفظ، ويكثر التكرار؛ ليثبّت قاعدة الحفظ).
وعليه فإن الحفظ في ميزان العلم شأنه كبير، ولا ينبغي إلغاؤه بالكلية في مناهج التحصيل العلمية، لكن ننبه إلى أن العلم ليس هو الحفظ فقط، ومن جعله ذلك فقد أبعد النجعة!
والدخول في ثنائية (الحفظ والفهم)، وأيّهما أهم وأولى؟ وهل هما يتعارضان أم لا؟! لا أحبذه كثيرا؛ لأنهما متعيّنان على المحصِّلين للعلم وطالبيه بعدل واتزان، فالحفظ والفهم لا يتعارضان معارضة تامة.
وفي ظني أن كليهما مهم وضروري جدًا في نجاح المسيرة العلمية؛ إلا أن الحفظ قد يكون هو الأهم في بدايات التحصيل باستصحاب أقل درجات الفهم.
قال سفيان بن عيينة (ت:198هـ): (أول العلم: الاستماع، ثم الفهم، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر).
ويقول ابن تيمية (ت:728هـ): (والعلم له مبدأ، وهو: قوة العقل الذي هو الفهم والحفظ، وتمام، وهو: قوة المنطق، الذي هو البيان والعبارة).
تأمل أن الفهم حتى في سياق عبارات العلماء هو الأول!!
ومع تَقدُّم الطالب في العلم والتحصيل لا بد أن يتصدر الفهم المكانة الرفيعة؛ فبالفهم يُحسن الطالب توظيف المنقول في المستجدات، وبالتّأمل يمكن تحرير الإشكالات؛ ولذلك كان يُقال: (قليلٌ من الفهم خيرٌ من كثيرٍ من الحفظ)، كما قال إمام الحنابلة في زمنه المحب أحمد بن نصر الله البغدادي نزيل مصر (ت844هـ).
وقال الحافظ الكبير أبوعلي النيسابوري (ت349هـ): (لم يكن بالعراق من أقران ابن صاعد أحد في فهمه، والفهم عندنا أجل من الحفظ).
وهذا الأمر ينبغي أن يكون هو المتعيّن، وهو الأصل في محافل التدريس، وإن كان للحفظ فوائد عديدة كاستحضار النصوص عند الحاجة مطلقا، أو عند المناظرة والإفتاء والوعظ وغير ذلك.
يقول ابن عاشور (ت:1393هـ): (وإني وإن كنت أرى العلم هو قوة الفكر، لا أجحد الاستحضار حقّه من جهة عونه على التعبير، ومن جهة كونه مظهر العالم، وكان في حفظ المتون النافعة مع فهمها مقنع من ذلك، لا سيَّما وأنَّ علوما جمة وهي علوم اللغة أشد احتياجًا إلى الاستحضار من غيرها، وبُعد الطلبة عن الاستحضار أوجب ضعفها فيهم. كما وجدتُ علمي النحو والصرف عند دخول جامع الزيتونة مزهودًا في العمل بهما، بل وجدتُ علم الصرف يكاد ينقطع. أمّا المقدرة على الإنشاء فنادرة. ولا شكَّ أن الغلوَّ في الطريقة الاستحضارية يتعسر معه اشتراك الطريقة النظرية؛ لأن الأولى تعتمد المسارعة للاطلاع على الكتب والإكثار من تكريرها، والثانية تقتضي البحث والتأمل فيها، والواجب أن يكون التعليم نظريا وأن يمزج بالاستحضار).
والواجب أن يكون التعليم نظريا وأن يمزج بالاستحضار ..
هذا ما أردت التنبيه عليه في موضوع الحفظ: وهو الخلل الذي طرأ على مساره، فَحَوَّله من كونه أداة ووسيلة إلى جعله مقصدًا وغاية! بل الأمر تجاوز ذلك إلى الخطأ في مفهوم "العلم"، و"العالم"، و"طالب العلم" فأصبح الحفظ هو المعيار في كل ذلك فحسب؛ مما أدى لتهميش قيمة غيره كالفهم والإدراك والاستنباط إذا تجرد عن الحفظ! هذا الأمر وإن لم يصرح به البعض، إلا أنه ظاهر في الساحة العلمية ظهورًا بالغا، ونكران وجوده من الصعوبة بمكان!
في مناهجنا العلمية أين تجد مقارنة الحفظ بمعيار البحث العلمي، أو معيار المَلَكة، أو معيار النظر والاستنباط؟!
¥