تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

قال الله تعالى:"كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَاب" [ص:29]، في هذه الآية الكريمة دعا ربنا في كتابه المحكم للتدبر وجعله مقصدًا وغاية في إنزاله، وأتبعه بالتذكر؛ فَكأنّ التدبر هو الباعث على التذكر لا غير، فافهم هذا الترابط وتأمّل مغزاه فكل فاهم إمام!!

قال تعالى: "أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا" [النساء: 82]، ومن أدلّ ما يبيّن أهمية "الفقه في الدين" ما ثبت عن أبى موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم؛ كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكان منها نقية قبلت الماء؛ فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء؛ فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به".

قال ابن الجوزي: (وهذه أمثال ضربت، فالأول: لمن يقبل الهدى، ويعلم غيره فينتفع وينفع، والثاني: لمن ينفع غيره بالعلم ولا ينتفع، والثالث: لمن لا ينفع ولا ينتفع، ويحتمل أن يشار بالطائفة الأولى: إلى العلماء بالحديث والفقه فإنهم حفظوا المنقول، واستنبطوا فعم نفعهم، ويشار بالطائفة الأخرى: إلى من نقل الحديث، ولم يفهم معانيه ولا تفقه؛ فهو يحفظ الألفاظ وينقلها إلى من ينتفع بها، ويشار بالقيعان إلى من لم يتعلق بشيء من العلم).

وفي كتابنا الكريم أثنى ربنا جلّ وعلا على نبيه سليمان عليه السلام بمزيد من الفهم، فقال تعالى: "فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا" [الأنبياء:79].

فاختزال العلم في الحفظ، وجعله غاية، ووصف الحافظ لمجرد الحفظ بالعالم؛ رفعٌ له عن مستواه؛ وهذا ربما يُعد جناية على العلم وأهله؛ لأن ذلك يؤدي لضعف العلم وتراجعه ولو بعد حين، كما أن هذا التعظيم دائما ما يصحبه تقليل لمن لا يمتلك هذه القيمة، أو التحجيم من قدره، وهو ربما كان أفيد للعلم، وأكثر خدمة له ممن استظهر أسفارًا من المتون!!

وما مثلنا في هذا الزمان إلا كما قال العلاّمةُ ابن شُهَيدٍ الأندلسي (ت:426هـ) واصفًا بوارَ الفهم والعلم والأدب في زمنه، لصالح الحفظ ونحوه من آلةِ الوُعَاظ: (لا كقومٍ عندنا، حظُّهم من الفهم الحفظُ، ومن العِلْمِ الذِّكرُ، وهذا حظّ القُصّاص، وأعلى منازل النُّواح. فترى المُمَخْرِقَ منهم إذا قُرئ عليه الشعرُ يزوي أَنْفَهُ، ويكسرُ طَرْفَه. وإذا عُرِضت عليه الخُطبة يُميل شِدْقَه .. (إلى أن قال:) وأصلُ قِلّة هذا الشأن، وعدمِ البيان: فسادُ الأزمنة، ونُبُوُّ الأمكنة. وإنّ الفتنة نسخٌ للأشياء، من العلوم والأهواء، ترى الفهمَ فيها بائرَ السلعة، خاسرَ الصفقة، يُلمَحُ بأعينِ الشنآن، ويُستثقَلُ بكل مكان .. ).

وهذا الضّعف العام الذي أحاط بالعلم؛ بموجب أمور عدة من أبرزها تعظيم من لا يستحق ذلك من الحفظة فحسب والفارغين فكريًّا، وهذا الأمر (أعني الحفظ) ليس له حد ولا نهاية؛ لأنه اجتاح المناهج العلمية ومحافل التدريس بكافة أنواعها، حتى أصبح ثقافة ومَنهجًا يُصدِّره جيل عن جيل، وهذا للأسف مما يعسّر اجتثاثه من تلكم المحافل، بل إن من ينتقده معرَّض لأنواع التهم والتصنيفات؛ لأن ترك المألوف من الصعوبة بمكان.

الثاني: دور المتون في تنمية الحفظ وإشاعته:

البعض من مفضلي الحفظ على غيره، وأرباب المتون (الدائرون في فلكها لا غير) ينخدعون أحيانًا بكثرة المحفوظ ومتابعة العامة، فيتوهمون بذلك أنهم بلغوا الغاية القصوى في العلم، وأحاطوا بمقاليده، وتفننوا في طرقه باستيعاب شامل، ودراية تامة، وهذا الوهم والسراب قد يجد ما يُرسّخه في بعض مقدمات العلماء لمتونهم العلمية بقولهم أحيانا: تغني عن غيرها!! والماتن وإن لم يقصد ذلك الفهم، إلا أن هناك طائفة ليست بالقليلة تُسوِّق لهذا المعنى قولا وعملا!!

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير